أعلن الرئيس السابق للحكومة اللبنانية سعد الحريري، زعيم «تيار المستقبل»، عن مغادرة الساحتين الانتخابية والسياسية؛ كما هو معروف. ومع أنّ الساحة السنية كانت مغمورة بالفوضى والتشرذم قبل اعتزال الحريري؛ فإنّ إضراب سعد الحريري الانتخابي والسياسي (لا يترشَّح ولا يرشِّح) زاد الأمور ضبابية وانعداماً لليقين وكآبة. ووسط هذه الأجواء المقبضة على الجميع، وبخاصة على أهل السُنة، طلع الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة بمبادرة ترمي لجمع الكلمة على الثوابت الوطنية والإسلامية، وتستهدف استحثاث جمهور أهل السنة على عدم الاستنكاف، وعلى المشاركة بقوة في الانتخابات. وشاركه في الاستحثاث على النزول لصناديق الاقتراع، مفتي الجمهورية، ورئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي.
منذ عدة أشهر، دأَب الرئيس السنيورة على محاولة إقناع الرئيس سعد الحريري بالبقاء في الساحة السياسية والانتخابية. وما اكتفى بذلك؛ بل عقد مئات الاجتماعات مع أفراد ومجموعات من أهل السنة من بيروت وسائر المناطق، وشارك الآخرين في التأكيد على دور الشباب، وعلى ضرورة ظهور نُخَب جديدة تتصدى للشأن العام. وفي الوقت نفسه، أجرى مشاورات مع سائر المعارضين لاستيلاء «حزب الله» على الدولة وقرارها، ومع سائر المعارضين للفساد والإفساد الذي ساد في العهد العوني، والذي تسبب ولا يزال في الأزمة الهائلة التي يعاني منها لبنان منذ قرابة 3 أعوام.
السنيورة عريقٌ في الحفاظ على المال العام. وفي فترة رئاسته للحكومتين وصلت نسبة النمو إلى 9 في المائة. ولا يمكن أن ننسى أنه قاتل عملاء النظام السوري من مدّعي الأصولية في مخيم نهر البارد
لقد أسقط الحزب المسلّح والفساد العوني كل ما أنجزه اللبنانيون خلال قرنٍ وأكثر. وهذان الفريقان، ومعهم بقايا من الطبقة السياسية ومن رجال الأعمال، يعودون الآن ليتصدروا مثلما فعلوا في انتخابات عام 2018 كأنما لم يحصل شيء. ومنطقهم: إما ألا تحصل الانتخابات، وإما يفوزون فيها إذا حصلت، كما فازوا من قبل وبالباطل لا بالحق الذي غادروا حرماته من زمان!
ما هي أطروحة الرئيس السنيورة؟ هي دعوة للعودة إلى الثوابت الوطنية والدستورية ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف، والالتزام بمقتضيات العيش المشترك وشرعيات لبنان الوطنية والعربية والدولية، وإخلاء البلاد من سلاح الميليشيا ومن النفوذ الإيراني، ومن تيار العداء لسلام لبنان وعلاقاته العربية. إنّ هذا التغيير السلمي بالذهاب إلى صناديق الاقتراع من أجل التصحيح والإنقاذ، هو حقٌّ لكل مواطن، ومنهم أهل السنة. لكنّ أهل السنة عليهم واجباتٌ خاصة إذا صحَّ التعبير. فقد مثلوا دائماً اللحمة الوطنية، وما حملوا السلاح على أحد عندما كانت الراديكاليتان المسيحية والشيعية تتصارعان على جسد الوطن الجريح، ثم اتفقتا عام 2006 ضد الجميع، فأوصلتا لبنان إلى الحالة التي هو عليها اليوم. ثم إنّ واحداً من أهل السنة – بحسب ترتيبات النظام – هو الذي يتولى رئاسة الحكومة أو السلطة التنفيذية. ولأنهم يتولون هذه المسؤوليات في حفظ النظام والدفاع عن استقلال البلاد وسلامها، سقط منهم 3 رؤساء للحكومة شهداء، والمفتي الشيخ حسن خالد.
قانون الانتخابات غير صالح لبلورة إرادة شعبية حقيقية، والحزب المسلَّح يمضي إلى الانتخابات بالسلاح ووهجه، وبالأموال التي كسبها من هيّان بن بيّان
والمعروف للقاصي والداني، أنّ الرئيس رفيق الحريري الذي شارك في «الطائف» بقوة، هو الذي أعاد إعمار البلاد، كما أعاد لبنان إلى الساحتين العربية والدولية. ويعرف القاصي والداني أيضاً، أنّ الرئيس فؤاد السنيورة الذي تولى رئاسة الحكومة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري بين عامي 2005 و2009، هو آخر رؤساء الحكومة الذين يستحقون هذا الاسم؛ إذ بعده سيطرت الراديكاليتان: الشيعية الحزبية المسلّحة، والعونية القائلة بتحالف الأقليات، فعاد وضع رئيس الحكومة إلى ما كان عليه قبل «الطائف»!
الوزير والرئيس السنيورة عريقٌ في الحفاظ على المال العام. وفي فترة رئاسته للحكومتين وصلت نسبة النمو إلى 9 في المائة. ولا يمكن أن ننسى أنه قاتل عملاء النظام السوري من مدّعي الأصولية في مخيم نهر البارد. وصمد في وجه الحزب والعونيين 18 شهراً في السراي. وكانت علاقات لبنان بالعرب والدوليين أيامه على أحسن ما يرام. وهو الذي صاغ بنود القرار الدولي رقم 1701 عام 2006، الذي أدخل الجيش إلى الجنوب، وحفظ سلام الجنوب ولبنان منذ ذلك التاريخ، وأعاد بمساعدة العرب إعمار البلاد في فترة قياسية. وهو شجاع من دون تهور، وكبير في الإدارة السياسية والاقتصادية، وحريص على مشاعر كل الناس. وما تصور يوماً حاضراً أو مستقبلاً للبنان من دون العرب.
لا يكتفي الرئيس السنيورة بالنداء والاستحثاث؛ بل هو يعمد لتشكيل مجموعة استشارية واسعة من سائر المناطق، وبخاصة من بيروت. وهذه المجموعة تستمع للجميع، وتبحث عن الكفاءات ذات التأهُّل والاستقلالية للترشيح، سواء في بيروت أو في سائر المناطق، مع الاهتمام بالتحالفات التي تتطلبها كل الانتخابات.
لكنْ ليس هذا فقط، فالتحديات شديدة الهول: قانون الانتخابات غير صالح لبلورة إرادة شعبية حقيقية، والحزب المسلَّح يمضي إلى الانتخابات بالسلاح ووهجه، وبالأموال التي كسبها من هيّان بن بيّان. وإلى هذا وذاك وذلك، فإنّ معظم أهل السنة في ظروفٍ اجتماعية واقتصادية لا يُحسَدون عليها. وإضافة إلى اختراقات الحزب المسلّح للمجتمعات السنية بـ«سرايا المقاومة»؛ فإنّ أفراداً عديدين في بيروت وطرابلس ونواحٍ أُخرى لا يستحقون؛ لكنهم سيتصدرون كما يحصل في أزمنة الانحطاط. الرئيس السنيورة على وعي بكلّ هذه التفصيلات. وهو من سنواتٍ غادر الساحة السياسية إلى الساحة الوطنية. وهو يعرف أيضاً أنّ إعْراض جمهور أهل السنة عن الاقتراع لن يُفضي إلى اضطراب الهوية وضياع الدور فقط؛ بل وسيؤدي – لأنّ الطبيعة تأبى الفراغ – إلى فوز أُناسٍ من بقايا الفاسدين والتابعين القدامى والجدد.
إقرأ أيضاً: ماذا نصح المفتي دريان السنيورة؟
وعندما أقول هذا كلّه، يبدو أنّ الساحة خالية، وعند أهل السنة بالذات؛ لكنّ ذلك غير صحيح. إنما هناك «أوادم» كثيرون يترددون في التصدر والتصدي، وسط الهيمنة المعلنة للمسلحين والفاسدين وتابعيهم. ولذلك فإنّ إقدام شخصية تبعث على الاحترام مثل الرئيس السنيورة، سيدفع كثيرين لنزع قناع الاستنكاف والتهيب. وللسنيورة عبارة إنجليزية يكررها دائماً: Stand up to be counted، أي: قِفْ لكي تُعَدّ، أو يُحسب لك حساب، أو ما يشبه هذا المعنى!
* نقلاً عن الشرق الأوسط