أوكرانيا الخطوة الأولى إلى نظام عالميّ جديد

مدة القراءة 6 د

“من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض. ومن يحكم قلب الأرض يحكم الجزيرة العالمية. ومن يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم”. نظرية خلُص إليها أستاذ الجغرافيا البريطاني هالفورد ماكندر في العام 1904 في محاضرة ألقاها في “المعهد الجغرافي الملكي”، حذّر خلالها القادة البريطانيين من الخطر الروسي المتعاظم منذ العام 1880. يعيد الصراع على أوكرانيا اليوم إحياء هذه النظرية بعد قرن ونيّف.

بدأت الحرب على أوكرانيا. هجم “الدبّ الروسي” ليُكمل ما بدأه منذ ثماني سنوات بالتمام والكمال بضمّ شبه جزيرة القرم. حصل ما كان متوقّعاً. ومخطئ من لم يتوقّع هجوماً روسيّاً معاكساً على “الهجوم” الأميركي والأوروبي في أوكرانيا. تكلّم البعض عن “لعب” الغرب في الحديقة الخلفيّة لروسيا. ولكن في الواقع إنّها حديقتها الأماميّة. فأوكرانيا تقع على شمال “الممرّ” الروسي إلى المياه الدافئة والعالم وهي بوابة روسيا نحو أوروبا. لذلك لم يتردّد بوتين في شباط وآذار 2014 من ضمّ شبه جزيرة القرم بعد سقوط حليفه فيكتور أيانوكوفيتش في الانتخابات ونجاح بيترو بوروشينكو فيها، رجل الأعمال المقرّب من الغرب. وقبل ذلك (آب 2008) كان قد نشر قواته في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا المحاذية للجهة الجنوبية لواجهة روسيا على البحر الأسود. وكان قد سمّم زعيم الثورة البرتقالية الأوكرانية (2005) فيكتور يوشنكو. ولكن اليوم الصراع أبعد من أوكرانيا ومن تأمين “ممرّ” إلى المياه الدافئة والعالم. إنّه صراع جيوسياسي بامتياز. عمره من عمر الدولة الروسيّة. وقبلها من عمر إمبراطورية القياصرة.

مسار تصاعدي في الصراع على أوكرانيا أكّد أنّ بوتين صاحب المبادرة في أوكرانيا. لذلك يبدو هو الأقوى في هذا الصراع الذي يهزّ العالم

 

كيف عاد الصراع إلى الواجهة؟

منذ بداية العام الحالي، والعالم يستفيق كلّ يوم على تصعيد جديد في الصراع على أوكرانيا يحدّد إيقاعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بدأ بحشد القوات العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا في روسيا وفي بيلاروسيا. وانتهى يوم الأربعاء الفائت بالاعتراف بإعلان استقلال “جمهوريّتيْ” دونيتسك ولوغانسك المنفصلتين. وهو كان بمنزلة إعلان حرب. تطوّرات أرادها زعيم الكرملين أن تسبق لقاءً مرتقباً لوزير خارجيّته بنظيره الأميركي يوم الخميس، كان يفترض أن يكون لقاءً تحضيريّاً للقاء قمّة، أيضاً مرتقب، سيجمعه بالرئيس الأميركي جو بايدن (ولا يبدو أنّه سيحصل بعد التطوّرات الميدانية الأخيرة).

هو مسار تصاعدي في الصراع على أوكرانيا أكّد أنّ بوتين صاحب المبادرة في أوكرانيا. لذلك يبدو هو الأقوى في هذا الصراع الذي يهزّ العالم.

ربّما يتساءل البعض: كيف يكون صاحب الموقف الأقوى فيما “حلف الناتو” يرابض على حدوده الغربية منذ العام 2004، والصواريخ الأميركية يمكن أن تطول عمق روسيا، ونظامه يخضع لعقوبات أميركية وأوروبية منذ 2014، والاقتصاد الأميركي هو الأولّ في العالم فيما اقتصاد روسيا يعاني ما يعانيه…؟

لكنّ الجواب أنّه في مقابل عناصر القوّة هذه، يملك بوتين عنصراً واحداً يجعله متفوّقاً في هذا الصراع: استعداده لخوض الحرب. وها هو بدأها فجر الخميس. فيما الآخرون في مكان آخر. وحين شعروا باقتراب موعد الحرب أجْلوا دبلوماسيّيهم من كييف وطلبوا من رعاياهم مغادرة البلاد. فالدول الأوروبية أعجز من أن تشنّ حرباً أو تنخرط في صراع مسلّح. وواشنطن في صدد الانسحاب من كلّ الصراعات المسلّحة في العراق وسوريا وأفغانستان بناءً على قرار اتّخذته إدارة باراك أوباما الأولى. ومن باب التذكير، فقد أتى عدم اتّخاذ القرار بضرب الأسد في العام 2013 في هذا السياق. وأكّد لزعيم الكرملين ثبات واشنطن في قرارها. الأمر الذي شجّعه على اتّخاذ القرار بالتدخّل العسكري المباشر في سوريا في العام 2015. وهو في جزء منه ردّ على ما اعتبره انقلاباً أميركياً – أوروبياً ضدّه في أوكرانيا لتضييق الحصار عليه.

قفز بوتين حينها فوق “جدار الحصار”، وسيطر على واجهة سوريا البحرية على المتوسط. زيارة وزير الدفاع الروسي الأخيرة لدمشق ونقل طائرات متطوّرة إلى قاعدة حميميم العسكرية يؤكّدان الارتباط بين الصراع في سوريا والأزمة الأوكرانية.

هدف زعيم الكرملين من الصراع اليوم هو تصحيح خلل في النظام العالمي عمره ثلاثون عاماً

الأطلسي ليس المشكلة

بالعودة إلى هذه الأزمة، فإنّ جوهرها ليس خشية موسكو من انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي. إذ إنّ قيادة الحلف نفسها لا تريد أن تصبح أوكرانيا عضواً لعدّة أسباب أبرزها:

1- إنّ قبول عضويّة أيّ دولة في الناتو يشترط حلّ كلّ مشاكلها الحدوديّة. وهذا مستحيل في الحالة الأوكرانية بعد ضمّ شبه جزيرة القرم وانفصال “دونباس” عن السلطة في كييف.

2- لا يريد الحلف زيادة الأعباء المادية العسكرية عليه.

3- ولا يريد أن يدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا تلزمه بها المادة 5 من ميثاق الحلف.

 

إذاً لماذا أعاد فلاديمير بوتين تسعير الصراع على أوكرانيا؟

هدف زعيم الكرملين من الصراع اليوم هو تصحيح خلل في النظام العالمي عمره ثلاثون عاماً. هذا الخلل يعود إلى بداية تسعينيات القرن الماضي. ففي 9 شباط 1990، بعد ثلاثة أشهر على سقوط جدار برلين (9 تشرين الثاني 1989)، تعهّد وزير الخارجية الأميركي حينذاك جيمس بيكر لميخائيل غورباتشيف بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي إلى ألمانيا الشرقية. كان تعهّداً وليس اتّفاقاً. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبحت واشنطن في حِلّ منه. في تموز 1991 تمّ حلّ حلف وارسو. في المقابل راح حلف الناتو يتوسّع في شرق أوروبا ويضمّ دولاً كانت في الاتحاد السوفياتي سابقاً أو تدور في فلكه. في العام 1999 انضمّت إلى الحلف هنغاريا وبولونيا وتشيكيا. وفي 2004 وصل الحلف إلى الحدود الروسية بانضمام دول البلطيق أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إضافة إلى بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفي 2020 انضمّت كلّ من ألبانيا وكرواتيا ومونتينيغرو وجمهورية مقدونيا الشمالية.

أمّا تصوّره لتصحيح هذا الخلل فيقوم على ثلاث نقاط أساسية:

1- أن يحترم الأميركيون وحلف الناتوالهواجس الأمنيّة الروسية في أوروبا الشرقية. ففي الأول من شباط قال بوتين: “الواضح أنّ الغرب يتجاهل هواجسنا الأساسية”.

2- الاعتراف بدور روسيّ في أوروبا الشرقية.

3- الاعتراف بأنّ روسيا قوّة عالمية ولديها كلمتها في العديد من الملفّات العالمية.

إقرأ أيضاً: العميد نزار عبد القادر لـ”أساس”: بوتين يروِّض أوروبا وأميركا

يبقى أنّ الأزمة الأوكرانية هي محطة في الصراع على النظام العالمي الجديد. إنّه صراع طويل يعيد الصراعات الجيوسياسية إلى قلب أوروبا الشرقية ويعيد إحياء نظرية البريطاني ماكندر لدرء الخطر الروسي القادم.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

إلى الدّكتور طارق متري: حول الحرب والمصالحة والمستقبل

معالي الدكتور طارق متري المحترم، قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة…

“حزب الله الجديد” بلا عسكر. بلا مقاومة!

أكّد لي مصدر رفيع ينقل مباشرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله: “أنا لا أثق بأيّ اتّفاق مكتوب مهما كانت لديه ضمانات دولية من أيّ قوى…

هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع…

لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

ما تسرّب من “المبادرة الأميركية” التي يحملها آموس هوكستين مفاده أنّه لا توجد ثقة بالسلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة لتنفيذ القرار 1701. تقول الورقة بإنشاء هيئة…