ما هو مصير سعر صرف الدولار بعد عراضة جهاز أمن الدولة وتظاهره بأنّه “يبحث عن رياض سلامة لتوقيفه”، وبين غوغائيّة القاضية غادة عون؟
الجواب الدقيق على هذا السؤال ليس بمتناول أحد. لكنّ الأكيد أنّ الأسلوب البوليسي والعراضات العسكرية، التي لم تجدِ نفعاً مع الصرّافين في السابق، لن يوصلا إلى أي نتيجة مع رياض سلامة. وحتماً لن يؤدّيا إلى استقرار الدولار. بل على العكس سيرتدّان سلباً على كلّ لبنان وعلى اللبنانيين، وذلك للبديهيّات التالية:
أولاً: محاسبة سلامة لها آليّاتها القانونية والدستورية وتتطلّب الهدوء لا العراضات الشعبية، لأنّ البديهيّات تقول إنّ سلامة هو موظّف في هذه الدولة، والمسؤوليّة الأولى تقع على عاتق السلطة السياسية التي ترأسُه، بدءاً من رئاسة الجمهورية ومروراً برئاسة الحكومة ومجلس الوزراء وليس انتهاءً بالبرلمان، وليس على عاتق موظّفٍ واحدٍ في الدولة، مهما كبُر حجمه أو صغُر.
ثانياً: أزمة المودعين ليست مع شخص رياض سلامة، وإنّما مع المصارف ومع مالكيها ورؤساء مجالسها، الذين أساؤوا الأمانة. فالناس أودعت أموالها لدى هؤلاء وليس لدى سلامة. أمّا مشكلة المصارف فهي مع سلامة، وسلامة مشكلته مع السلطة السياسية، التي استدانت من المصرف المركزي وترفض إعادة الأموال إليه اليوم.
ثالثاً: سلوك القاضية غادة عون وأداتها (جهاز أمن الدولة) يؤسّس لخلاف سياسي كبير قبيل الانتخابات النيابية، وفي لحظة انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ولهذا أقلّ ما يُقال عنه إنّه متسرّع ومجنون، قادر على زجّ البلاد في خلاف حادّ سيّء التوقيت مع رئاسة مجلس النواب التي ترفض المسّ بسلامة وتخطّيه، وأيضاً مع رئاسة الحكومة التي اعتبرته واحداً من ضبّاطها في المعركة (أقلّه ظاهرياً)… بل أيضاً مع المجتمع الدولي ومع الأميركيين الذين لا يظهرون منسوب الحماسة نفسه الذي لدى الفرنسيين لأيّ عملية تغيير في منصب الحاكمية، أقلّه بهذا الشكل الغوغائي – البوليسي. فكلّنا يعرف أنّ التوقيفات لا تحصل في لبنان بهذه الطريقة.
تكشف معلومات “أساس” أنّ نقاشاً هادئاً بدأ بين رئاسة الجمهورية وميقاتي، عن “بديل لا يكون محسوباً بشكل كلّي على الوزير جبران باسيل أو على العهد”، الذي قد يُظهر في نهاية المطاف بعض الليونة لناحية اختيار اسم حاكم جديد غير محسوب عليه، إن كان يريد فعلاً تقديم إنجاز من هذا النوع لجمهوره
استقرار الليرة مهدّد
لكن بعيداً عن التشويش “العوني”، هل استقرار سعر صرف الدولار قابل للاستمرار في ظلّ هذا التخبّط السياسي والمالي وحتى القضائي في ملفّ سلامة نفسه؟ الجواب رهن معطيَيْن:
الأول نقدي يتعلّق بقدرة مصرف لبنان على الاستمرار بضخّ الدولارات، وبالـDeadline الذي يرسمه “المركزي” لذلك: هل الضخّ مستمرّ إلى حين تمرير الموازنة في مجلس النواب؟ أم إلى وقت إجراء الانتخابات النيابية؟
تتحدّث أوساط مصرف لبنان لـ”أساس” عن هذا “الإنجاز” الذي تعتبره Success story، فتعترف صراحة بـ”عدم رغبتها الخوض في تفاصيله على الإطلاق”، وذلك من أجل “عدم فضح الوسيلة التي مكّنت مصرف لبنان من فرض استقرار سعر الصرف”، وتؤكّد أنّه “قابل للاستمرار لوقت طويل”. وتعتبر الأوساط أنّ عدم لمس المواطنين إيجابيّات ما قام به “المركزي” من شهر إلى اليوم، يعود إلى “جشع التجّار” وعدم قدرة أجهزة الدولة ووزارة الاقتصاد على ضبط أسعار السلع. وتُلفت هذه الأوساط إلى أنّ “الحلّ بسيط” ويتطلّب التفكير “من خارج الصندوق”، وذلك بأن يُفرَض تسعير السلع كلّها بالدولار ويُقبض ثمنها بالليرة اللبنانية، على سعر منصة “صيرفة”، وبذلك “تنتفي حجّة التجّار بشراء البضائع على سعر 25 أو 30 أو حتى 35 ألفاً”. لكنّ أوساط “المركزي” تؤكّد أنّ “الاستقرار سيستمرّ”، إن لم يطرأ أيّ معطى يعكّر الأجواء (مثل عراضة عون مثلاً).
لكنّ منسوب التفاؤل قد يبدو مرتفعاً، خصوصاً لناحية رفض البوح بحقيقة الأمور بالشفافيّة المطلوبة. فاستقرار سعر الصرف ليس سرّاً ويجب ألّا يكون كذلك، فـ”المركزي” يضخّ الدولارات ويقول إنّها لا تكلّفه شيئاً، لكن فعلياً الأمر قد لا يبدو كذلك لأنّ دولارات الضخّ يحصل عليها مصرف لبنان من تحويلات OMT (“أساس” كشف هذه التفاصيل في مقال سابق)، وهي غير كافية، بل من المرجّح أنّه يقوم بدعمها من أموال لا يبوح بمصدرها، لأنّ حجم الطلب يستحيل أن تكفيه عمليات صرف التحويلات الواصلة من الخارج إلى فروع OMT الـ1200.
الثاني قضائي يخصّ ملف سلامة الفعليّ وليس عراضات غادة عون وتمثيلية أمن الدولة أمس. إذ تكشف معلومات خاصة لـ”أساس” أنّ التحقيقات اللبنانية الفعليّة في ملفّ الأخوين رياض ورجا سلامة “وصلت إلى خواتيمها”، وباتت متوقّفة عند تفصيل وحيد يخصّ التحويلات المالية المفترضة من شركة “فورييه” إلى الحاكم نفسه، وذلك بهدف التأكّد من أنّ رجا سلامة (مالك الشركة) قد حوّل فعلاً جزءاً من أرباح الشركة إلى الحاكم.
تكشف المصادر أنّ حجم العمولات التي باتت مثبتة، تبلغ نحو 350 مليون دولار، وهي متأتّية من بيع وشراء السندات لمصلحة 6 مصارف، وتشير إلى أنّ الملف ينقسم بدوره إلى قسمين:
1- يخصّ ثروة رياض سلامة واستثماراته: تكشف هذه المصادر أنّ هذا الملف “لا شبهات حوله”، لأنّه يقتصر على عمليات استثمارية في المجال العقاري، قام بها الحاكم من مدخوله الخاص قبل تولّيه حاكميّة المركزي، وبالتالي فإنّ الملفّ لا يدخل في شبهات الاستفادة من المال العامّ.
2- يتعلّق بعمولات الشركة: هناك “جدل” قانوني – فقهي يتّصل بتصنيف طبيعة هذه العمولات، وإن كانت “مالاً عامّاً أو خاصّاً”. النقاش يمتدّ أيضاً إلى الأمور التقنيّة من أجل “معرفة الجهة التي يقع على عاتقها دفع هذه العمولات”.
ثمّة رأي يقول إنّ هذه العمولات “تحصل عليها فورييه من المصارف”، وليس من المصرف المركزي، وبالتالي “لا يمكن اعتبارها اختلاساً للمال العامّ”، خصوصاً أنّ الترخيص غير حصري بـ”فورييه”، بل هناك جهات أخرى يمكنها البيع والشراء بكلّ حريّة (لا تُظهر التحقيقات وجود شركات أخرى تقوم بهذا العمل حتى اللحظة).
أمّا الرأي الآخر فيقول إنّ هذه الأموال “يحصل عليها المصرف من فوائد تدفعها الدولة نفسها، وبالتالي فهي جزء لا يتجزّأ من المال العام”، ويتمخّض عن هذا الأمر سؤال إضافي حول النسبة التي تحصل عليها شركة “فورييه”، وهي¾ بالألف. فهل هذه النسبة موحّدة وتسري على جميع الشركات العاملة في بيع السندات، أم هي نسبة تحصل عليها شركة الأخوين سلامة وحدها؟
تكشف المصادر أنّ حجم العمولات التي باتت مثبتة، تبلغ نحو 350 مليون دولار، وهي متأتّية من بيع وشراء السندات لمصلحة 6 مصارف
تفويض مفتوح؟
يفتح هذا كلّه نقاشاً قانونياً إضافياً حول قرارات المجلس المركزي لمصرف لبنان. ففي حين نفى أكثر من عضو سابق بالمجلس موافقته على الاتفاقية التي سمحت لـ”فورييه” ببيع وشراء السندات، تكشف المعلومات أنّ ما قاله بعض الأعضاء في الإعلام “يختلف كلّياً عمّا قالوه في التحقيقات”.
تكشف المصادر عن وجود “تفويض منحه أعضاء المجلس المركزي للحاكم نفسه من أجل بتّ الاتفاق مع الشركة”، وبعضهم يقول إنّ “هذا التفويض مُنح للحاكم لمرّة واحدة فقط”، فيما بعضهم الآخر يقول إنّ “التفويض كان يُجدَّد كلّ سنة”.
جهاد أزعور؟
تكشف معلومات “أساس” أنّ نقاشاً هادئاً بدأ بين رئاسة الجمهورية وميقاتي، عن “بديل لا يكون محسوباً بشكل كلّي على الوزير جبران باسيل أو على العهد”، الذي قد يُظهر في نهاية المطاف بعض الليونة لناحية اختيار اسم حاكم جديد غير محسوب عليه، إن كان يريد فعلاً تقديم إنجاز من هذا النوع لجمهوره.
وبحسب المعلومات فإنّ ميقاتي يطرح اسم وزير المال الأسبق جهاد أزعور، لكن لم يُعرف إن كان الأخير على استعداد للموافقة على هذا العرض في ظلّ الأجواء الضبابية التي تلفّ الواقع اللبناني، لأنّه سيكون لزاماً عليه التخلّي عن مركز مرموق في صندوق النقد من أجل مركز آخر آفاقه مسدودة.
أمّا النفي الذي يصدر عن ميقاتي في هذا الخصوص، فيضعه البعض في خانة “التمويه والمراوغة” اللذين يعتمدهما ميقاتي في إدارة ملفّاته كلّها، وكانت آخِر مظاهرهما “الطريقة الأفعوانية” التي مرّر بها الموازنة والتعيينات العسكرية في مجلس الوزراء.
إقرأ أيضاً: الدولة أكبر المستفيدين: الموازنة تُخفي فائضاً؟
في المحصّلة، قد يكون إقصاء سلامة أو دفعه نحو الاستقالة بهدوء، معركة ينتصر بها محور “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”. لكنّ النظر أبعد قليلاً يظهر أنّ هذه المعادلة عمرها قصير وقد لا تطول أبعد من الانتخابات. حينها قد تتبدّل الأمور، وقد نعود إلى مسلسل تحليق الدولار مجدّداً، لأنّ حجّة الانتخابات التي تستمهل بها السلطة المجتمع الدولي تكون قد انتهت ونكون قد دخلنا مرحلة “حكّ الركاب” لناحية الإيفاء بوعد تنفيذ الإصلاحات.
يُقرأ المكتوب من عنوانه: “حزب الله” يعيد إحياء أمواتٍ لفظتهم أوساطهم الشعبية، فيطمح إلى التحالف معهم في الانتخابات، وهذا السلوك على غرار سلوك غادة عون يشي بأنّ الطريق إلى صندوق النقد لن تكون مزيّنة بالورود، وإنّما بالغوغائيّة والنظريّات البائدة. وعندئذٍ لن ينفعنا بقاء سلامة ولا غير سلامة، ونكون قد خسرنا أنفسنا وخسرنا لبنان.