خلال سنتيْ الأزمة حدث ما لم يكن في الحسبان. فالماليّة العامّة، ويا للمفارقة، كانت أكبر المستفيدين من انهيار سعر الصرف.
هكذا، وفي غبار الفوضى السياسية والمالية والنقدية، افتقر الناس وفقد المودعون أموالهم، لكنّ الميزانية العامّة تحوّلت إلى تحقيق فائض أوّلي في النصف الأول من السنة الماضية تجاوز 1700 مليار ليرة، أي ما يعادل 61% من النفقات، وتحقيق فائض إجمالي بنحو 281 مليار ليرة، بما يعادل 3.2% من النفقات.
خلال سنتيْ الأزمة حدث ما لم يكن في الحسبان. فالماليّة العامّة، ويا للمفارقة، كانت أكبر المستفيدين من انهيار سعر الصرف
تفسير هذه المفارقة واضح، فالكثير من النفقات أكلها التضخّم المفرط، وخصوصاً الرواتب والأجور وفوائد سندات الخزينة بالليرة (التي يريد رئيس الجمهورية شطبها تماماً!)، وتوقّف أكبر بنود الإنفاق، وهو خدمة الدين بالعملة الأجنبية. فيما تضخّمت في المقابل بعض بنود الإيرادات بشكل أكبر نتيجة الزيادة الاسمية لفواتير التحصيل الضريبي، وخصوصاً إيرادات الضريبة على القيمة المضافة التي قفزت 12% في النصف الأول من السنة الماضية، لتتجاوز 1860 مليار ليرة.
تقوم موازنة 2022 أساساً على الاستمرار في الاستفادة من انهيار الليرة، من خلال تعديل كبير في جانب الإيرادات لتعكس سعر الصرف الجديد، من دون تعديل النفقات بالقدر نفسه. هذه ببساطة هي فلسفة موازنة 2022.
لذلك فإنّ أرقام الموازنة الحقيقية ليست تلك التي وزّعتها وزارة المال، وأقرّتها الحكومة بالتهريب، وأعلنها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمام الصحافيين. هناك أرقام أخرى مخبّأة خلف الجداول، يعرفها من حبَكَ الفذلكة، وهي تقود إلى تحقيق فائض أوّليّ لا بأس به، لكن بشرط أن تبقى النفقات تحت السقف المضبوط المحدّد في الموازنة.
حيلة الأجور والجمرك
تُقدِّر الأرقام المعلنة الإيرادات عند 39 ألف مليار ليرة، والنفقات عند 47 ألف مليار ليرة، والعجز عند 17% تقريباً. لكن اللعبة تكمن في مدى التعديل الحقيقي الذي سيطرأ في جانبيْ الإيرادات والنفقات بناء على متغيّرات سعر الصرف. ففي حين كان تعديل الأجور طفيفاً وجزئيّاً، وبمعدّل لا يتجاوز الضعف، تحت مسمّيات المساعدات الاجتماعية وبدلات النقل، تلحظ الموازنة في جانب النفقات في المقابل تعديلاً كاملاً (full adjustment) للرسوم الجمركية بخمسة عشر ضعفاً، بما يعكس كامل التغيير الذي طرأ على سعر الصرف تقريباً! المعادلة إذاً: خمسة عشر ضعفاً في جانب الإيرادات الجمركية، مقابل ضعف واحد الأجور.
لذلك ليست القطبة المخفيّة في الموازنة في النفقات، بل في الإيرادات. فمشروع الموازنة يزيدها بنسبة 192% عن الإيرادات المقدّرة في مشروع موازنة 2021، وهذا تقدير متحفّظ جدّاً ولا يلحظ حقيقة القفزة المرتقبة في الإيرادات الجمركية بشكل خاص نتيجة رفع سعر صرف الدولار الجمركي بخمسة عشر ضعفاً، كما ستوضح السطور التالية.
لنفهم هيكل الإيرادات الحكومية لا بدّ أن نعود بالتاريخ قليلاً إلى آخر موازنة قبل الأزمة. كانت الإيرادات الضريبية عام 2019 في حدود 12,500 مليار ليرة، الجزء الأكبر منها يأتي من ضريبة الدخل بنحو 5,500 مليار ليرة، أمّا “البلوكان” الآخران الكبيران فهُما إيرادات الجمارك التي كانت تعادل 1,800 مليار ليرة، أي نحو 1.2 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي حينذاك، وإيرادات الضريبة على القيمة المضافة التي بلغت في ذلك العام نحو 3,250 مليار ليرة. وتُضاف من خارج الإيرادات الضريبية إيرادات الاتصالات التي كانت تفوق قليلاً 1,400 مليار ليرة.
ماذا تغيّر في 2022؟
لم تتغيّر تقديرات ضريبة الدخل بشكل جذري في موازنة 2022، بسبب التعادل السلبي بين تضخّم أرقام الأجور اسميّاً بالليرة وانخفاض قيمتها فعليّاً بسبب حالة الركود. إذ تقدّر الموازنة إيرادات ضريبة الدخل بـ 5,900 مليار ليرة تقريباً، بزيادة 400 مليار ليرة عن الأرقام الفعليّة لعام 2019، وهو رقم يبقى متحفّظاً على أيّ حال.
لكنّ التغيير الكبير سيطرأ على إيرادات الجمارك وضريبة القيمة المضافة. بالنسبة للجمارك، طرأ تغيير جذري باعتماد سعر صيرفة للدولار الجمركي، لكنّ المفارقة الكبرى أنّ موازنة 2022 تقدّر كامل الإيرادات الجمركية بأقلّ من 3,400 مليار ليرة، أي ما يزيد قليلاً على ضعف الرقم المحصّل في السنة الماضية، في حين أنّ الدولار الجمركي سيرتفع بخمسة عشر ضعفاً على الأقلّ، وهو مفتوح على ارتفاع أكبر من خلال قرار يصدره وزير المال كلّ شهر بناء على سعر منصّة صيرفة في الشهر السابق.
نحتاج إلى مراجعة أرقام السنة الماضية لنحكم على مدى واقعيّة تقديرات الموازنة. بحسب البيانات المنشورة على موقع وزارة المال، تجاوزت الإيرادات الجمركية 742 مليار ليرة في الأشهر الستّة الأولى من 2021، ومن المتوقّع أن تُنهي السنة عند نحو 1,500 مليار ليرة. هذا على السعر الحالي للدولار الجمركي الذي يعادل سعر الصرف الرسمي. فماذا سيتغيّر عندما يتضاعف سعر الدولار الجمركي 15 مرّة؟
إقرأ أيضاً: الحكومة تعطي المودعين “الكبار” شيكاً بلا رصيد
إذا افترضنا أنّ الموازنة سيبدأ تطبيقها في الربع الثاني من السنة، فستقفز الإيرادات الجمركية في تسعة أشهر من السنة. ومع افتراض انكماش حركة الاستيراد 20 في المئة نتيجة ارتفاع الرسوم، فإنّ حصيلة الإيرادات الجمركية يمكن أن ترتفع إلى 17 ألف مليار ليرة، أي أكثر ممّا يلحظه مشروع الموازنة بنحو 14 ألف مليار ليرة، ولو أضفنا هذا الرقم إلى الإيرادات الإجمالية المقدّرة في الموازنة، لارتفعت من 39 ألف مليار ليرة إلى نحو 53 ألف مليار ليرة، أي أكثر من إجمالي النفقات المقدّرة بنحو ستة آلاف مليار ليرة.
هذا يعني أنّ الموازنة تخبّئ خلف الأرقام المعلنة فائضاً أوّليّاً بأكثر من 10%، وليس عجزاً بنسبة 17%.