وفقاً للأرقام الموجودة بحوزة اللجنة الحكوميّة المكلّفة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي، ثمّة ما يقارب 22 مليار دولار من الودائع التي تفوق قيمة كلّ منها 500 ألف دولار أميركي. وبحسب الخطّة التي عملت عليها اللجنة، من المفترض أن يتمّ التعويض على هؤلاء بمنحهم ما قيمته 12 مليار دولار من الأسهم في القطاع المصرفي بدل ودائعهم، بالإضافة إلى نحو 10 مليارات دولار من “السندات الدائمة” المنتجة للفوائد، والمربوطة بموجودات الدولة.
بمعنى آخر، ستخصّص الدولة موجودات خاصّة بها بقيمة 10 مليارات دولار، سيتمّ استثمارها في مشاريع يعود ريعها لحَمَلة هذه السندات من المودعين، لتكون عوائد السندات هي التعويض عن الودائع. أمّا إذا لم تدرّ الاستثمارات العوائد المتوقّعة، فستكون موجودات الدولة المربوطة بالسندات هي الضمانة التي يحصل عليها المودع في النهاية.
لا يوجد ما يؤكّد أنّ الدولة قادرة في ظلّ الأزمة الماليّة الحاليّة على إطلاق مشاريع خصخصة أو شراكة مع القطاع الخاص بعوائد ستوازي الـ10 مليارات دولار
عبارة “السندات الدائمة” يجري استخدامها كدلالة على عدم وجود استحقاق محدّد لهذه السندات، بمعنى أنّ المودع سيحافظ على حقّه في هذه المشاريع إلى حين سداد قيمة وديعته، سواء من خلال أرباح الاستثمارات، أو من خلال وضع اليد على أسهم في مشاريع أو موجودات الدولة لاحقاً.
استثمار أصول الدولة
في الواقع، ولتأمين هذه الأرباح لأصحاب السندات، وبما أنّ الدولة لا تملك الرساميل اللازمة للقيام بأيّ استثمار بنفسها، تراهن الخطة الحكوميّة على استثمار موجودات الدولة المربوطة بالسندات من خلال مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو من خلال منح شركات خاصّة امتياز استثمار بعض مرافق الدولة العامّة وأصولها. وهناك عدد من السيناريوهات:
1- على سبيل المثال، يمكن تخصيص مجموعة من العقارات المملوكة من قبل الدولة اللبنانيّة، لربطها بالسندات، ثمّ منح بعض المستثمرين امتياز استثمار هذه العقارات على فترات طويلة من الزمن.
2- أو يمكن تخصيص بعض الشركات المملوكة من قبل الدولة، كشركات الاتصالات مثلاً، لربطها بهذه السندات أوّلاً، ثمّ منح حقّ استثمارها لشركات خاصّة لفترات زمنيّة معيّنة.
3- يمكن حتّى خصخصة هذه الشركات أو العقارات بالكامل لاحقاً لسداد الالتزامات للمودعين، أو منح المودعين حصصاً فيها، في حال لم تحقّق السندات الدائمة التعويض المطلوب للمودع، طالما أنّ هذه الموجودات المملوكة من الدولة هي الضمانة النهائيّة لحقّ المودع.
شيك بلا رصيد
لهذا السبب بالتحديد، من المفترض أن توازي قيمة الموجودات العامّة المخصّصة لهذه العمليّة، قيمة الودائع التي سيتمّ التعويض عنها، أي مبلغ الـ10 مليارات دولار كما نصّت الخطّة الحكوميّة. وهو ما يوازي 45% من قيمة الودائع التي تتجاوز قيمة كلّ منها 500 ألف دولار. وهذه السندات، من المفترض أن تمثّل الشقّ المضمون لأصحاب الودائع الكبيرة، في حين أنّ الـ55% الباقية تمثّل استثمارات غير مضمونة في المستقبل، على شكل أسهم في المصارف لا يمكن التنبّؤ بقيمتها المستقبليّة.
ستخصّص الدولة موجودات خاصّة بها بقيمة 10 مليارات دولار، سيتمّ استثمارها في مشاريع يعود ريعها لحَمَلة هذه السندات من المودعين، لتكون عوائد السندات هي التعويض عن الودائع
لكن بمعزل عن تقديرات وطموحات الخطّة، لا يوجد حتّى اللحظة ما يؤكّد أنّ حساب الحقل سيطابق حساب البيدر. بمعنى أوضح: لا يوجد ما يؤكّد أنّ الدولة قادرة في ظلّ الأزمة الماليّة الحاليّة على إطلاق مشاريع خصخصة أو شراكة مع القطاع الخاص بعوائد ستوازي الـ10 مليارات دولار، بما يكفي لسداد هذه القيمة من الودائع. لا بل لا يوجد ما يؤكّد أنّ الدولة قادرة على تخصيص موجودات تبلغ قيمتها السوقيّة 10 مليارات دولار في هذه الظروف الاقتصاديّة، ليتمّ استثمارها بالشكل الذي تتصوّره الخطّة.
لذلك قد يكون هذا البند في خطة الحكومة مجرّد شيك بلا رصيد لكبار المودعين، أو مجرّد بند قد يبقى معلّقاً لسنوات طويلة مقبلة، من دون أن تتمكّن الحكومات المقبلة من إدخاله حيّز التنفيذ.
بيع MEA والكازينو والاتصالات
وفقاً لدراسة سابقة أجراها “معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة”، فإنّ أيّ برنامج خصخصة واقعي يمكن أن يفضي إلى عمليّة بيع كاملة لأسهم شركة طيران الشرق الأوسط، بالإضافة إلى أسهم كازينو لبنان، ونصف أسهم شركتيْ الاتصالات الخلويّة وشركة أوجيرو، مع 30% من العقارات المملوكة من الدولة.
في حال تمكّن لبنان من بيع كلّ هذه الأصول دفعة واحدة، على الرغم من صعوبة الأوضاع النقديّة والماليّة، فمن غير المتوقّع أن تتمكّن الدولة من تحصيل أكثر من 5.88 مليارات دولار أميركي، أي أقلّ من 59% من الأصول التي تستهدف خطّة الحكومة ربطها بالسندات الدائمة، والتي تبلغ 10 مليارات دولار أميركي.
في واقع الأمر، يصعب أن تتوقّع الدولة الدخول في عمليّات خصخصة أوسع من هذا النطاق، من قبيل بيع نسبة أكبر من المشاعات العامّة، أو حتّى بيع نسبة أكبر من شركات الاتصالات الخلويّة والأرضيّة، بالنظر إلى محدوديّة حجم الرساميل التي يمكن استقطابها إلى السوق المحليّة في مرحلة التصحيح المالي.
يمكن أن يزيد حجم الأصول العامّة التي يمكن خصخصتها الدولة إذا بِيعت كلّ أسهم الريجي، وكلّ أسهم شركات الاتصالات، بالإضافة إلى نسبة أكبر من المشاعات العامّة. لكنّ هذا السيناريو بعيد جدّاً عن الواقع، بالنظر إلى حجم الرساميل المطلوب استقطابها لتنفيذ عمليّات طموحة بهذا الحجم.
فخّ “السداد”
في كلّ الحالات، من الأكيد فإنّ فكرة “السندات الدائمة” الواردة في خطّة الحكومة لا تشمل الذهاب رأساً إلى الخصخصة المباشرة، بل تستلزم الدخول في مشاريع شراكة مع القطاع الخاص لاستثمار هذه الأصول، مع إمكانيّة الخصخصة لسداد قيمة السندات للمودعين لاحقاً، في حال فشل عوائد الاستثمارات في التعويض عليهم.
لكنّ تقدير القيمة السوقيّة لأصول الدولة التي سيتمّ ربطها بالسندات مطلوب منذ البداية، للتأكّد من أنّ قيمة الموجودات العامّة توازي قيمة السندات المربوطة بها، وللتأكّد من كفاية قيمة الموجودات كضمانة لأصحاب الودائع. وترتبط قيمة الموجودات المتاحة للاستثمار عبر الشراكة مع القطاع الخاص بحجم الأرباح المرتبطة بها، والتي سيتمّ استخدامها للتعويض على حَمَلة السندات.
إقرأ أيضاً: مصرف لبنان “يدجّن” الصرّافين.. بـOMT
الأكيد أنّ هذا الشقّ من الخطّة سيبقى نقطة إشكاليّة، نظراً إلى عدم قدرة الدولة على استثمار كميّة كبيرة من الأصول التي تتجاوز قيمتها 10 مليارات دولار، بالشراكة مع القطاع الخاص، ودفعة واحدة بعد ربطها بالسندات كما تتوقّع الخطّة. ولا يوجد ما يكفل قدرة الدولة على استقطاب ما يكفي من رساميل أجنبيّة لاستثمار هذه الأصول بالشراكة مع الدولة، كما تتوقّع الخطّة، وخصوصاً في مرحلة التصحيح المالي. هذا تحديداً ما سيجعل ذلك البند فخّاً يمكن أن يعلّق سداد جزء من الودائع التي راهنت الخطّة الحكوميّة على سدادها لكبار المودعين.