هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية.
“أساس” ينشر اليوم وغداً مجموعة مقالات ومقابلات في محاولة لسرد بعضٍ سيرته التي نتعلّم منها جميعاً.
في بيروت منارتان، الأولى تنتصب على شاطئ عين المريسة تُرشد السفن العابرة إلى مسالك الأمان. أمّا الثانية فتنتصب داخل الروح وتحت تراب المدينة بوسط بيروت، واسمها “رفيق”، وهي البوصلة الوطنية لنا بمواجهة مصاعب الأيام.
لم يكن دخول رفيق الحريري إلى قلوبنا نحن أهل بيروت صدفة سياسية أو نتيجة حراك حزبي أو شعور مذهبي طائفي. استوطن رفيق الحريري قلوبنا كما يفعل الفاتحون المنتصرون، تماماً كما حصل في فتح مكّة وفتح القسطنطينيّة والكثير من الفتوحات.
في بيروت منارتان، الأولى تنتصب على شاطئ عين المريسة تُرشد السفن العابرة إلى مسالك الأمان. أمّا الثانية فتنتصب داخل الروح وتحت تراب المدينة بوسط بيروت، واسمها “رفيق”
أنفق رفيق الحريري مئات الملايين من الدولارات في عام واحد ليس لشراء أصواتنا الانتخابية ولا لامتلاك ولائنا السياسي. أنفقها تنميةً لمؤسّساتنا الأهليّة، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية ومؤسسة دار الأيتام ودار العجزة، وصولاً إلى أصغر جمعيّة من جمعيّاتنا. كان حجم تبرّعه في الإفطارات الرمضانية لتلك المؤسّسات يرسم بذكاء سقف التبرّعات، دافعاً الأثرياء إلى الهرولة واللهاث حفظاً لماء الوجه، وإلى الرفع من قيمة تبرّعاتهم كي لا تكون مخزية مضحكة أمام تبرّع “الرفيق”.
حفر رفيق الحريري شوارع بيروت كلّها دفعة واحدة، مُرمّماً ومحدّثاً ومطوّراً. حوّل بيروت إلى ورشة إعمار كبرى لا توازيها أيّ ورشة. حتّى بتنا غير قادرين على التنقّل بسيّاراتنا الخاصة. فعل كلّ ذلك ليدفعنا إلى الإيمان بإعمار مدينتنا واستحقاقها أن تعود للحياة. حفر شوارع بيروت ليحفر اسمه في قلوبنا.
تجوّل رفيق الحريري بشكل شبه يومي في شوارع بيروت مطمئنّاً على كلّ نفق من أنفاقها وورشة إعمار من ورشاتها. تابع تأهيل الأرصفة حجراً حجراً في شارع الحمرا، متفقّداً أعمدة الإضاءة عموداً عموداً. حرص على التأكّد من ريّ كلّ شجرة أو نبتة زُرِعت في وسطيّة من الوسطيّات. لم يغِب عن ورشة بناء مسجد الأمين يوماً من الأيام. حضر صبّ كلّ الأعمدة، وعند التبليط رافق كلّ بلاطة. وقف منتظراً تشييد المئذنة وفرش السجاد وتعليق الثريّات… حتى تركيب حنفيّات الوضوء للمصلّين.
اطمأنّ رفيق الحريري على السندويش الذي نتناوله في يوميّاتنا. زار مطعم الفلافل الذي نحبّ في عائشة بكار متذوّقاً. وقف لتناول البطاطا المقليّة التي نفضّل في شارع الحمرا. كان الجميع ينتظره بالمقهى في رأس بيروت عند “نزلة أبو طالب”، فلا بدّ أن يمرّ به في آخر النهار. علّمنا كيف ننتقل من القهوة المغليّة إلى تناول “الإكسبريسو” وكبّاية الثلج لزوم شرب المياه.
بعد 17 عاماً على اغتيال رفيقنا، نؤمن نحن البيارتة أنّ الحياة يجب أن تستمرّ. هكذا علّمنا الرفيق بالممارسة والقول والنشيد: “البلد ماشي ولا يهمّك”. علّمنا أنّ التضحية واجبة لاستكمال المسيرة، وأنّ أيّاً منّا ليس أكبر من بلده وليس بعاجز عن تحقيق المستحيل
لقّننا رفيق الحريري القواعد الذهبية لإنفاق مالنا، كيف نتزيّن ببدلاتنا، أرشدنا إلى الحياة والفرح والتمتّع بملذّات الرزق الحلال.
رعى الرفيق كلّ تفاصيلنا، المهمّ والمهمل منها. لم يترك أيّ تفصيل. عبر بصغارنا الشارع المزدحم إلى المدرسة، أمسك بيد شبابنا للدخول إلى الجامعة، ساند رجالنا في بناء المعمل وافتتاح المتجر. لم يكتفِ بإعادة إعمار أسواقنا التاريخية المهدّمة، بل جعل كلّ أسواق العرب أسواقاً لمنتجاتنا وأمكنةً لعمل أبنائنا وإخوتنا. لم يكتفِ رفيق الحريري بشراء لزوم قصره من صفائح زيت الزيتون، بل اشترى نتاج كلّ زيتون لبنان من الزيت لزوم منازلنا نحن الطبقة المتوسّطة ولزوم كلّ من اشتاق لطعم زيت الزيتون في أزقّتنا الفقيرة المعدمة. كان يتناول معنا طعام الإفطار في رمضان بمنزله، متنقّلاً من طاولة إلى طاولة، مشاركاً ما سُكِب في صحوننا، واضعاً يده على كتف فلان، موجِّهاً عينيه إلى عينيّ عِلّان، مخاطباً البقيّة بلسانه مخترقاً كلّ قلوبنا.
بعد 17 عاماً على اغتيال رفيقنا، نؤمن نحن البيارتة أنّ الحياة يجب أن تستمرّ. هكذا علّمنا الرفيق بالممارسة والقول والنشيد: “البلد ماشي ولا يهمّك”. علّمنا أنّ التضحية واجبة لاستكمال المسيرة، وأنّ أيّاً منّا ليس أكبر من بلده وليس بعاجز عن تحقيق المستحيل.
إقرأ أيضاً: الرياشي لـ”أساس”: يريدون دفن لبنان في ضريح الحريري
بعد 17 عاماً على غيابه، نحن مستعدّون لكلّ شيء، للمشاركة في الانتخابات النيابية، للتصويت لمن يترشّح لها تالياً علينا البرامج، رافعاً الكثير من الشعارات. نحن مستعدّون أن نهتف لأبنائنا ولعقلائنا ولكلّ ساعٍ إلى التغيير. ليس لنا موقف مسبق من كلّ الشخصيات، الجديد منها والقديم، لكنّنا نحن البيارتة لدينا شرط واحد على هذا أو ذاك المرشّح، ولا ذنب لنا بذلك، إذ يمكنكم أن تقولوا: لقد أفسدنا “رفيق”. شرطنا الوحيد أن يكون أيّ مرشح قادراً على أن يفعل نصف ما فعله لنا رفيق الحريري أو ربعه أو جزءاً بسيطاً منه. من يجد نفسه عاجزاً عن ذلك نقول له بكلّ ودّ ومحبّة: “كفى الله المؤمنين شرّ القتال”.
فلا حاجة لنا لأنصاف زعماء أو أنصاف رجالٍ… هذا ما لقّننا إيّاه، قبل رحيله، “رفيق”.