هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية.
“أساس” ينشر اليوم وغداً مجموعة مقالات ومقابلات في محاولة لسرد بعضٍ سيرته التي نتعلّم منها جميعاً.
هذه السنة بالذات ليست سنة للتذكُّر. فنحن لا نتحدّث عن رفيق الحريري لكي نتذكّره، بل لنستفقد ذلك الرجل الكبير.
يجوز أن يقول مَن كانوا خصومه، قبل أصدقائه ومريديه ومحبّيه: “أينك اليوم يا رفيق الحريري؟”. لأنّ المشاكل الحياتية، من كهرباء وارتفاع أسعار ونقص أدوية، تطالعنا كيفما وضعنا يدنا. ولا أحد يستطيع أن يكون بحجم العلاج. أما ?المسؤولون في مواقع السلطة فيقولون إنّها تركة ثقيلة من السنوات الماضية.
في مدينة الطائف السعودية طبعاً كان له دوره، وتحديداً في موضوع المناصفة التي أصرّ عليها طوال ممارسته العمل السياسي. ومنذ بداية عمله السياسي كان مشبعاً بالفكرة التقليدية عن لبنان العيش المشترك
لذا يشتاق اللبنانيون إلى الكبار أمثال رفيق الحريري. فقد كان رجلاً يحمل مشروعاً ورؤيا. جاء إلى بلده الذي تعرّض للدمار والخراب والموت لسنوات طويلة، وقبل أن يأتي كان قد بدأ مساهماته، فحضر اجتماعات جنيف ولوزان في العامين 1983 و1984. كان جزءاً من محاولات إيجاد حلّ لِما كان يُسمّى حينها “الأزمة اللبنانية”. وبعدها وضع برنامج مساعدات واسعة لكلّ اللبنانيين: مساعدات ماديّة وغذائية، فضلاً عن مؤسسة الحريري التي وفّرت التعليم لـ38 ألف طالب وطالبة. وكان مشروعه الاجتماعي الإنساني سابقاً على المشروع السياسي.
في مدينة الطائف السعودية طبعاً كان له دوره، وتحديداً في موضوع المناصفة التي أصرّ عليها طوال ممارسته العمل السياسي. ومنذ بداية عمله السياسي كان مشبعاً بالفكرة التقليدية عن لبنان العيش المشترك.
حاول أن يملأ فراغ غياب القادة المسيحيين الكبار، الذين كان منهم المنفي ومنهم المسجون. فتواصل مع المرجعيّات الدينية، ناسجاً علاقة مميّزة مع بكركي، وسائر المرجعيّات والرهبانيّات، وفيما بعد مع الفاتيكان. هناك ولدت بينه وبين البابا الراحل يوحنا بولس الثاني علاقات ثقة، بحيث اعتبره الفاتيكان المحاوِر من الجانبين العربي والمسلم.
وكان كبيراً في علاقاته مع القادة، مثل جاك شيراك الذي بدأت علاقته معه عندما كان رئيساً لبلدية باريس، واستمرّت علاقة أخوية إنسانية أكثر ممّا هي علاقة سياسية. ومن أجله نظّم الرئيس شيراك مؤتمر باريس-1 وباريس-2، ثمّ باريس-3، بعد اغتياله بكلّ أسف.
لم تكن علاقاته مع المملكة العربية السعودية ومع الملك فهد بحاجة إلى برهان على مدى متانتها، لكن لم يتسنَّ له أن يكون مع الملك عبدالله الذي كان صديقاً للرئيس سعد الحريري فيما بعد
وكانت له علاقة مع الرئيس فلاديمير بوتين، ومع رؤساء وزراء أوروبا، ولا سيّما فرنسا وإسبانيا. والتقى الملك الإسباني خوان كارلوس، إضافة الى زياراته الأرجنتين والبرازيل وكندا، وطبعاً الولايات المتحدة، أكثر من مرّة. فضلاً عن الشرق الأقصى حيث زار اليابان مرّتين، وزار الصين وماليزيا، وزار فيتنام لحضور مؤتمر الدول الفرنكوفونية، حيث تمّ الاتفاق على عقد مؤتمر الفرنكوفونية المقبل في لبنان.
طبعاً لم تكن علاقاته مع المملكة العربية السعودية ومع الملك فهد بحاجة إلى برهان على مدى متانتها، لكن لم يتسنَّ له أن يكون مع الملك عبدالله الذي كان صديقاً للرئيس سعد الحريري فيما بعد.
إلى مصر كانت له علاقة خاصّة بالرئيس حسني مبارك، وملك المغرب الحسن الثاني كان يكنّ له صداقة خاصة بوصفه ساهم في بناء أكبر مسجد في إفريقيا بالدار البيضاء. وكان لي الحظّ أنّي رافقته في 49 رحلة من هذه الرحلات إلى الخارج. وقد ذهبت بمعيّته لزيارة الملك الحسن الثاني في قصر الشقيرة، حيث فاجأه الملك بإهدائه الوشاح الملكي الأكبر.
?أعاد كلّ هذا حضور لبنان في الخارج، وأعادت سياسته اللحمة إلى النسيج الاجتماعي، خصوصاً بتمسّكه بـ”العيش المشترك”. فلا أحد في تاريخ لبنان تحدّث عن العيش المشترك كما تحدّث الرئيس رفيق الحريري، لأنّ كلّ خطاباته وبياناته الوزارية أحتفظ بها إلى اليوم.
لكلّ هذا، تأخذ الذكرى اليوم طابع الحسرة، لأنّ اللبنانيّين لسان حالهم: “قطيعة. مش موجود حدن يضوّي لنا الكهرباء. لو كان رفيق الحريري ما كان رح يتركنا بالعتمة؟”.بعد كل المليارات التي أهدرناها على الكهرباء، ولا كهرباء.
أين اليوم رفيق الحريري؟
هذا هو صوت الناس في ذكراه. والشوق عظيم إلى هذا الكبير. نحن في حالة شوق إلى الكبار. لأنّ ?هذا الصنف من الرجال بات مفقوداً.
ولا بدّ من القول هنا إنّ المؤسسات ليست كيانات جامدة. بل تكون صورة عن حيوية المسؤولين عنها. الرجل يكون هو المنصب أحياناً. لهذا لا نقول “الرئاسة” إذا لم نعرف من هو “الرئيس”. واليوم لم يعد هناك “كبار” في المؤسسات.
إقرأ أيضاً: الرياشي لـ”أساس”: يريدون دفن لبنان في ضريح الحريري
?نتحسّر عليه في ذكراه، لكن نذكره بالخير من وريثه وابنه سعد الحريري الذي كان المثال. وقد أعلن تعليقه العمل السياسي بعدما عاكسته الظروف داخلياً وخارجياً. حاول أن يسير على طريق رفيق الحريري، لكن لم يستطع. فلم يستمرّ ولم يغلّب مصلحته الشخصية التي تقضي أن يبقى، بل استخلص النتائج، وأصدر ذاك البيان في 24 كانون الثاني الماضي وأعلن تعليق العمل السياسي.
?في هذه الذكرى تبقى صورة الرئيس رفيق الحريري الذي أعاد التأسيس، في قلوب جميع المخلصين.
* مستشار الرئيس الشهيد رفيق الحريري