أمّ كلثوم عقبة في طريق تطوّر الغناء المصريّ!!

مدة القراءة 7 د

كتب المثقّف الكبير والصديق الدكتور محمد أبو الغار مقالاً يوم الثلاثاء في 4 كانون الثاني 2022 في جريدة “المصري اليوم” تحت عنوان: “منيرة المهديّة في كتاب مثير عن الغناء في مصر”، واختتم المقال: “واضح أنّ منيرة المهدية بتقديمها المسرح الغنائي ومحاولة الغناء الأوبرالي كانت سابقة لزمانها، وأنّ أمّ كلثوم كوكب الشرق ومعبودة جيلنا كلّه، على الرغم من روعة أدائها، لم تطوِّر الغناء المصري، بل ربّما تكون أعاقت تطوّره”. والكتاب هو “حياة الليل في مصر 1890ـ1952″، وقد ألّفه البريطاني رافيل كورماك.

على الرغم من الصدمة، ربّما نبّهني الدكتور أبو الغار إلى اقتراب الذكرى السابعة والأربعين لوفاة أمّ كلثوم، التي غادرت دنيانا عصر الإثنين 3 شباط عام 1975. وربّما كان تشييع جثمانها خاتمة مهيبة لمشاهد الجنازات الكبرى في تاريخ مصر، من سعد زغلول إلى جمال عبدالناصر، ومن طه حسين إلى أمّ كلثوم، ومن عبد المنعم رياض إلى عبد الحليم حافظ.

ويوضح عبد النور خليل في كتابه “رجال في حياة أم كلثوم” أنّ الخبر الكاذب تحدّث عن قضية رفعتها أمّ كلثوم ضدّ شابّ في قريتها غرّر بها ورفض أن يتزوّجها، وقد ثبت اختلاق الخبر

 
في صباح الأربعاء ودّعت مصر أمّ كلثوم في جنازة مليونيّة سارت من ميدان التحرير إلى شارع صبري أبوعلم، حيث حمل المصريون النعش واتّجهوا به إلى مسجد الإمام الحسين.

ولنلاحظ أنّ الربط بين سلطانة الطرب السيّدة منيرة المهدية والآنسة أمّ كلثوم قديم، منذ أن استقرّت أمّ كلثوم في القاهرة منتصف عشرينيّات القرن الماضي، وذاع صيتها، وكانت في المنافسة أيضاً فتحية أحمد. كانت المنافسة شرسة، ومال صحافيون إلى منيرة المهدية، لدرجة أنّ بعضهم مثل الصحافي عبد المجيد حلمي (مجلّة المسرح) نشر خبراً يطعن في شرف أمّ كلثوم، وكاد يعيدها إلى طماي الزهايرة بقرار من والدها الشيخ إبراهيم الذي أزعجه الخبر. 
 
ويوضح عبد النور خليل في كتابه “رجال في حياة أم كلثوم” أنّ الخبر الكاذب تحدّث عن قضية رفعتها أمّ كلثوم ضدّ شابّ في قريتها غرّر بها ورفض أن يتزوّجها، وقد ثبت اختلاق الخبر.

تطوير الأغنية العربية

واستمرّت المنافسة بينهما، حتى في الأسطوانات، فقد ارتفع أجر أمّ كلثوم إلى أربعة أضعاف أجر منيرة المهدية. وهكذا اقتحمت منيرة المهدية، حسب الدكتور أبو الغار، عالم المسرح الغنائي، وهذا صحيح، إذ كانت نجمته بلا منازع، وهو ما لم تقربه أمّ كلثوم. لكن بفحص ودراسة ما قدّمته أمّ كلثوم للأغنية العربية يتبيّن أنّه كان تطويراً هائلاً، ومنذ البداية. فقد كانت الأغاني قبلها عبارة عن جمل موسيقية قصيرة يتمّ ترديدها وتكرارها بهدف الطرب، مع استثناءات محدودة قام بها سيّد درويش. وكانت الكلمات أيضاً في أغلبها متدنّية وتخاطب الغرائز الدنيا في المستمعين، فكان أن ثار المجتمع ضدّها، وبدأت اللجان تنعقد لإنقاذ الذوق العام.
 
ذلك هو المناخ الذي كان سائداً في القاهرة حين استقرّت فيها أم كلثوم بشكل نهائي قبل مئة عام، فجاء معها التطوّر اللافت في اختيار الكلمات والألحان. ومن كتاب “مذكّرات أمّ كلثوم” كما ترويها بنفسها، الذي أعدّه محمد رفعت المحامي: “اختيار الكلمات” لأنّها تحبّ الشعر، وتقرأ ابن الفارض وابن الرومي والبحتري والمتنبّي والشريف الرضيّ ومهيار الديلمي وأبو نواس. وقرأت أغاني الأصفهاني، وقرأت كبار كتّاب زمانها مثل المنفلوطي، وجدّدت في الأداء لأنّ صوتها كان خامة ممتازة لكلّ الملحّنين في عصرها الذين فتنتهم حنجرتها وطبقات صوتها.
 
أمّا أستاذها أبو العلا محمد الذي كان يغنّي: “وحقّك أنت المنى والطلب”، وقصيدة “غيري على السلوان قادر”، فبهرها. أمّا ما كان يغنّيه أطفال قريتها فهو “أنا نازلة ادلع أملا القلل”. وأبو العلا محمد هو الذي نصح أباها بالانتقال إلى القاهرة بعدما سمعها. وقالت أمّ كلثوم في مذكّراتها: “نزلت لإحياء فرح فصُدمت من أغاني “هات القزازة واقعد لاعبني”، وأغنية “ارخي الستارة اللي في ريحنا”. وعلى الرغم من صباها وشبابها المبكر اعتبرت هذه الأغاني انحلالاً. وكانت أوّل أغنية لحّنها أبو العلا محمد لها خصيصاً: “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا”. غنّت لشعراء قدامى وجدد، من دون أن تعرفهم. حتى أحمد رامي غنّت له “الصبّ تفضحه عيونه” وهو في باريس. وبعد عودته ذهب لسماعها، وبعد سماعها بكى. 

رفعت أمّ كلثوم مستوى الكلمة في مسار الأغنية العربية. هذا ما رآه الموسيقار محمد عبدالوهاب، كما جاء في كتاب محمود عوض “أمّ كلثوم التي لا يعرفها أحد”

كان رامي في بعثة لدراسة اللغة الفارسية، وعاد منها سنة 1924 بترجمة “رباعيّات الخيّام” عن الفارسية مباشرة. وقد اختارت منها أبياتاً شكّلت رائعتها الرباعيّات فيما بعد، ولم يكن رامي يزورها إلا وفي يده هديّة عبارة عن ديوان شعر.

“الخلاعة والدلاعة مذخبي”

نلاحظ أنّ أمّ كلثوم استقرّت في القاهرة عقب ثورة 1919 التي قدّمت جيلاً من المثقّفين المصريين الباحثين عن النهضة والبعث والتطوّر في شتّى المجالات، ومنها الموسيقى والغناء، وظهر ذلك عند سيد درويش وعند أم كلثوم. صحيح أنّها غنّت في بداية حياتها في القاهرة بعض أغاني ذلك الزمان، ومنها “اللي بحبه دا دلعه يجنّن”، “تفاح يا سكر يا ناعم”، “الخلاعة والدلالة مذهبي من زمان عاشق صبابة والنبي”.. .

لكنّ رامي كان قد ظهر في حياتها واحتجّ وجعل “الخفافة واللطافة” بدلاً من “الخلاعة والدلالة” واستجابت، بل أكثر من ذلك فإنّها حرّضته على كتابة أغانٍ لها، وهو ما فعله. ورفع من قيمة الكلمة المكتوبة في الأغاني، فكتب: “وإن كنت أسامح وأنسى الأسيّة”، التي باعت نصف مليون أسطوانة. كان تطوّر الأغنية بدأ، وكان الجمهور الذي ملّ الأغاني الهابطة على استعداد.
 
وإذا كانت منيرة المهدية تقدّمت في المسرح الغنائي فإنّ أمّ كلثوم تقدّمت في السينما، وقدّمت ألحاناً مختلفة لهذا الفن الجديد، وغنّت القصائد الصعبة ووصلت للناس، مثل “ولد الهدى” و”نهج البردة” و”سلوا قلبي” و”أراك عصيّ الدمع” و”الأطلال”.

ورفعت أمّ كلثوم مستوى الكلمة في مسار الأغنية العربية. هذا ما رآه الموسيقار محمد عبدالوهاب، كما جاء في كتاب محمود عوض “أمّ كلثوم التي لا يعرفها أحد”، حيث قال: “إنّها ساهمت بعقلها في رفع مستوى كلمات الأغاني في مصر والشرق”. وهذا تطوّر في الأغنية. وهكذا قالت لرامي سنة 1924 “اكتب لي أغنية زجلية”، ولمّا انزعج رامي قالت له: “من حقّ الغناء أن يظفر بخيال الشعراء في أسلوب يفهمه العامّة، أم هل يعجبك مستوى الأغاني التي تُغنّى في هذه الأيام؟”، ويتّفق عوض مع رامي في أنّ أمّ كلثوم نشرت بغنائها الذوق الرفيع في اللغة.
 
ربّما يرمي الدكتور أبو الغار إلى أنّ أمّ كلثوم كانت عقبة بسبب استحالة تجاوزها عبر خمسين عاماً من الغناء، لكنّها لم تمنع ظهور مطربات أخريات كان لهنّ جمهورهنّ طوال الوقت.

إقرأ أيضاً: سلمى مرشاق سليم سيدة كل الأعوام

طوّرت أمّ كلثوم الغناء المصري لأنّها، كما توصّلت الباحثة الأميركية فرجينيا دانيلسون في كتابها “صوت مصر أمّ كلثوم” (ترجمة عادل هلال عناني، المشروع القومي للترجمة): “ساعدت على تأسيس عدّة أساليب مختلفة، وأسهمت أعمالها الغنائية في اثنتين من النزعات المهمّة في الثقافة التعبيرية المصرية، أولاهما نزعة كلاسيكية جديدة (فيها تجديد للتراث)، والأخرى نزعة جماهيرية”.

لقد أوجدت ثقافة موسيقية بالمعنى العامّ للكلمة.

* نقلاً عن بوّابة الأهرام المصريّة

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…