نحن أنفسنا الفردوس ونحن الجحيم (عمر الخيّام)
فتح رئيس الجمهورية ميشال عون “بازار التمديد ” على وسعه، في الأسبوع الفائت، ناقلاً المعركة من الطيونة والمرفأ وقانون الانتخابات وترسيم الحدود، إلى رئاسة الجمهورية، ومَن سيخلفه، وموقفه من “الفراغ”.
ففي حديثه مع صحيفة “الأخبار” الأسبوع الماضي، ثم مع صحيفة “الراية” القطرية، وبعدها مع قناة الجزيرة، بدا رئيس الجمهورية ميشال عون وكأنه آثر التخلّي عن صيغة التسريبات الإعلامية، التي اعتمدها دوماً خلال سنوات حكمه الخمس، حينما يريد تمرير الرسائل، أو “التمريك” على الآخرين، وذلك من أجل توجيه رسائل بـ”المباشر” الى الداخل والخارج.
ثمّة العديد من الملاحظات، التي يمكن تسجيلها على هامش هذه التصريحات، وتُختصر بثلاثة عناوين رئيسة: العلاقة مع السعودية، الانتخابات النيابية، انتخابات الرئاسة.
فتح رئيس الجمهورية ميشال عون “بازار التمديد ” على وسعه، في الأسبوع الفائت، ناقلاً المعركة من الطيونة والمرفأ وقانون الانتخابات وترسيم الحدود، إلى رئاسة الجمهورية، ومن سيخلفه، وموقفه من “الفراغ”؟
1 – العلاقة مع السعوديّة
يقول عون إنّه “يريد أطيب العلاقات وأفضلها مع المملكة العربية السعودية، وسعى إلى مأسستها وعدم تأثّرها بفرد ما أيّاً يكن. ليس في كلّ مرّة يتسبّب فردٌ بأزمة علاقات بين البلدين”.
بالطبع الرئيس عون محقّ، إذ يجب أن يكون للبنان أفضل العلاقات مع السعودية، لكن ماذا فعل عون للوصول إلى هذه الغاية التي تُعتبر هدفاً وطنيّاً؟
الجواب لا شيء. زار السعودية بعد أشهر قليلة على انتخابه رئيساً، وقدّم مع صهره وزير الخارجية حزمة من الوعود التي لم يتحقّق منها شيء، بل قام عون بعكس ما وعد به القيادة السعودية آنذاك.
قبل انتخابه رئيساً، شذّ لبنان عن الإجماع العربي، حين غرّد جبران باسيل منفرداً عندما كان وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس تمام سلام، وأبى التصويت على بيان إدانة الاعتداءات الإيرانية التي تمثّلت باقتحام مبنى السفارة السعودية في طهران، والقنصلية في مشهد، ومن هذه النقطة بالتحديد ابتدأت رحلة الفراق عن العرب.
وبعد رحلته إلى الرياض المُتخمة بالوعود، عاد صهره ووريثه السياسي جبران باسيل ليكرّر الفعلة مرّة أخرى في أيلول عام 2019، متنكّراً لوعوده وتعهّداته مع عمّه، وذلك عندما امتنع عن إدانة الهجوم على شركة “أرامكو” السعودية عبر مسيَّرة إيرانية الصنع، والأنكى أنّه قام بعد أشهر قليلة من ذاك الهجوم بإدانة مقتل “قائد” الإرهاب الإيراني قاسم سليماني.
وعندما كان عون يُعطّل تشكيل الحكومة للحصول على الثلث المعطِّل، حاول مراراً وتكراراً إدخال السعودية في مستنقع التشكيل، مرّة عبر الإيحاء بأنّ ثمّة فيتو سعوديّاً على الحريري هو الذي يمنع التأليف، ومرّة أخرى عبر التسويق الإعلامي لصفقة قيد التفاوض مع المملكة عبر سفيرها في لبنان لتسمية شخصية سنّيّة غير الحريري لتأليف الحكومة، لكنّ السفير السعودي قطع الشكّ باليقين إثر زيارته بعبدا، حيث قال إنّه زارها بناء على طلب عون، وإنّ المملكة تحترم سيادة الدول ولا تتدخّل بشؤونها الداخلية، مذكّراً بضرورة الالتزام باتفاق الطائف وتطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلّقة بلبنان.
فعن أيّ علاقة طيّبة يتحدّث عون إذا كان يمتنع عن إدانة الاعتداءات على أراضي ومنشآت المملكة؟ هل يتذكّر أحد بياناً صادراً عن رئاسة الجمهورية يدين الاعتداءات الحوثيّة المتكرّرة على السعودية؟
يقول عون في مكان آخر إنّ العلاقة مع السعودية انهارت عقب استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض في تشرين الثاني 2017، وكان ذلك بداية الخلاف.
بيد أنّ كلامه يدحضه سفير المملكة وليد البخاري الذي أكّد في آب عام 2018 أمام مجلس الأعمال اللبناني السعودي أنّه تمّ إعداد أكثر من 20 اتفاقية بين البلدين، وجميعها تنتظر التوقيع بعد التأليف.
ويبقى السؤال: لماذا لم تُوقَّع تلك الاتفاقيات، سواء إبّان حكومة الحريري الثانية في عهد عون، أو حكومة حسان دياب؟ ومن وضع فيتو عليها؟ الجواب لدى الرئيس عون.
يقول الرئيس عون: “لن أوقّع مرسوماً يدعو الهيئات الناخبة إلى 27 آذار للاقتراع. إذا أتاني سأردّه من حيث أتى كي يُصار إلى تعديله. لن أوافق على انتخابات نيابية سوى في أحد موعدين: 8 أيار أو 15 أيار”
2 – الانتخابات النيابيّة
يقول الرئيس عون: “لن أوقّع مرسوماً يدعو الهيئات الناخبة إلى 27 آذار للاقتراع. إذا أتاني سأردّه من حيث أتى كي يُصار إلى تعديله. لن أوافق على انتخابات نيابية سوى في أحد موعدين: 8 أيار أو 15 أيار”.
كما جرت العادة، يستخدم الرئيس عون توقيعه الدستوري في التعطيل، مثلما هو الحال في التشكيلات القضائية والعديد من القرارات الأخرى التي تزخر بها مكتبة الرئاسة. وهو إذ يعتبر قرار المجلس النيابي توصية غير ملزمة فحسب، واعتداءً على صلاحيّات وزير الداخلية المخوّل وحده تحديد موعد الانتخابات، إلا أنّه لا يلبث أن يعتدي هو بنفسه على تلك الصلاحيات عندما يحدّد الموعد الذي يمكن أن يقبل به حصراً.
يرمي عون بموقفه هذا إلى أبعد من قضية الانتخابات وموعدها، وحتى أبعد من تأجيل الانتخابات أو تطييرها، إذ يريد عون نقل صلاحيّة تفسير الدستور من المجلس النيابي إلى المجلس الدستوري، وهو هدف سعى إليه طويلاً، مراهناً على نفوذه في ذاك المجلس، وعلى تكريسه مرجعاً وحيداً لتفسير الدستور.
وقبل أشهر قليلة، في كانون الثاني الماضي، قال عون إنّ “دور المجلس الدستوري لا يجوز أن يقتصر على مراقبة دستوريّة القوانين فحسب، بل كذلك تفسير الدستور وفق ما جاء في الإصلاحات التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرّت في الطائف”.
استدعى كلامه في ذلك الحين ردّاً من رئيس مجلس النواب نبيه برّي والرئيس نجيب ميقاتي اللذين اعتبرا أنّ مجلس النواب هو الوحيد المخوّل وفق منطوق اتفاق الطائف تفسير الدستور. وليس أيّ جهة أخرى. أفلا يزال الرئيس ميقاتي على موقفه أم ما قبل السراي الحكومي ليس كما بعده؟
الجدير بالذكر أنّه نتيجة الجدل الذي احتدم حول هذه النقطة بالذات عند إسقاط مقرّرات وثيقة الوفاق الوطني على أحكام الدستور، حُسِم الأمر بالقانون الدستوري الذي حمل الرقم 18/1990 تاريخ 21/9/1990، والذي نصّ على إبقاء صلاحيّة تفسير الدستور للسلطة التشريعية بعدما كان منحها الطائف للمجلس الدستوري.
“أنا لن أسلّم الفراغ”، هو الموقف الأعلى لعون في حديثه والأكثر دويّاً، وبذلك يؤكّد ما كان يدور همساً في أروقة القصر أو عبر تسريبات منظّمة من هنا وهناك
3- رئاسة الجمهوريّة
“أنا لن أسلّم الفراغ”، هو الموقف الأعلى لعون في حديثه والأكثر دويّاً، وبذلك يؤكّد ما كان يدور همساً في أروقة القصر أو عبر تسريبات منظّمة من هنا وهناك.
يضع عون مواصفات لخلفه: “لن يكون بعد الآن رئيس للجمهورية لا يمثّل أحداً، وحتى لا يمثّل نفسه، بل ابن قاعدته”. وهذه المواصفات لا يراها أو يجدها تنطبق إلا على صهره، وبذا يفتتح عون السباق الرئاسي بابتزاز موصوف وفق قاعدة إمّا أن تنتخبوا باسيل رئيساً وإمّا سأبقى في القصر حتى تنتخبوا باسيل رئيساً للجمهورية.
ويكتمل الابتزاز بالافتراض الذي يطرحه المحاور عن عدم وجود مجلس نيابي، ليكون جواب عون: “هل يُعقل أن لا يبقى هناك أحد؟”.
هو استفهام صاغه الكاتب بطريقة بلاغية تهدف إلى توصيل رسالة تستتر خلف هذا الاستفهام الإنكاري رسالة مفادها أنّه يمكن أن نصل إلى موعد نهاية ولاية الرئيس من دون وجود مجلس نواب.
رسالة تُنبئ بأحدث صيحات الموضة الدستورية التي وصلت إليها إبداعات مصمّمي الأزياء الدستورية الذين يُكْثِر منهم عون في فريقه: دولة الفراغ.
لقد كان الفراغ، الذي اختتم به عون حديثه، الهدف الأساس من الحديث كلّه، ولو لم يكن الفراغ بحدّ ذاته هدفاً عونيّاً فلماذا كثرة الحديث عنه أصلاً، وافتراض ما لا يجب حدوثه؟
أمّا كيف يمكن أن يحدث ذلك، فله طريقان:
الأوّل: تطيير الانتخابات النيابية لتدخل البلاد حالة فراغ في السلطة التشريعية عقب انتهاء ولايتها في 20 أيار المقبل، وهو السيناريو الأكثر تداولاً.
الثاني: الطعن بنتائج الانتخابات النيابية أمام المجلس الدستوري من قبل جبران باسيل في حال لم تأتِ وفق ما يشتهيه، لتصبح العملية الانتخابية برمّتها معرّضة للإبطال، وهو ما يهدف إليه عون من خلال نقل مرجعيّة تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري، وهو السيناريو الأخطر.
حتى لو لم يخسر نائباً واحداً، قد يتقدّم باسيل بالطعن من أجل إسقاط المجلس النيابي وخلق حالة فراغ دستوري كبيرة فقط، فلا يبقى مجلس نواب، وتكون الحكومة قد تحوّلت إلى تصريف الأعمال، فيتدخّل المجلس الدستوري مبتدعاً اجتهاداً فقهيّاً يُتيح للرئيس عون الاستمرار في منصبه حتى يتمّ انتخاب مجلس نيابي جديد.
وبذلك لا يظهر عون أمام المجتمع الدولي أنّه قد خالف الدستور، بل اتّبع الطرق القانونية حسب تفسير المرجع الصالح للتفسير، لذلك قاتل عون كثيراً، ولا يزال، لنقل صلاحيّة تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري، وأصرّ على تعيين قضاة انتقاهم بعناية مصمّم الأزياء الدستوري إيّاه.
إقرأ أيضاً: الحزب والرئيس وتهديد الانتماء العربيّ والدستور
عندما كان عون رئيساً لحكومة عسكرية أواخر الثمانينيّات، استعان بدراسات وأفكار قانونية ودستورية للقاضي والوزير السابق سليم الجاهل، لكنّه لم يَسَعْهُ تطبيقها، بسبب الظروف الدولية والإقليمية، وبسبب ميله إلى القوة العسكرية على حساب الدستور.
أمّا اليوم فإنّه يحيط نفسه بسليم آخر، أكثر إبداعاً وخبثاً من سليم الأول، يخطّط منذ زمن لتمكين عون وسلالته من بعده من حكم كلّ لبنان بالبدع الدستورية، ويشهد له بقدراته الفذّة بشار الأسد وخلف عون في الجيش وسلفه في الرئاسة إميل لحود.