لمناسبة ذكرى الاستقلال الثامنة والسبعين (1943-2021)، تعدّدت الجهات اللبنانية التي رأت في الذكرى فرصةً لإدانة الوضع الراهن بالدولة وللدولة، وحاولت رسم مسارٍ لاستعادة الدولة والاستقلال والحرّيّة.
لقد حضرتُ في هذا الصدد مناسبتين، أولاهما أقامها موقع “أساس” يوم الاستقلال في 22 تشرين الثاني، وحضرتها نُخَبٌ سياسية وإعلامية واجتماعية تقدّمهم الأستاذ مروان حمادة، وصدر عنها بيانٌ بعنوان: “نحو الاستقلال الثالث”. والثانية انعقدت ببيت مري وحضرتها شخصياتٌ ثقافية وفكرية ورجال أعمال، وصدر عنها إعلانٌ عنوانه: “لبنان السيّد حقيقة عربية، وطنٌ نهائيٌّ لجميع أبنائه، عربيّ الهويّة والانتماء – الدستور اللبناني”.
العمل السياسي والنضال السياسي ينبغي أن ينصبّا من جانب الاستقلاليّين جميعاً على المطالبة بالخلاص من سلاح الحزب
أمّا بيان “أساس”، الذي صدر بعد كلمتين للأستاذين مروان حمادة ونهاد المشنوق، فقد كان سياسيّاً مباشراً، وقد دعا إلى التمسّك بوثيقة الوفاق الوطني والدستور والشرعيّات الثلاث: الوطنية القائمة على العيش المشترك والدستور، والعربية التي عمادُها الهويّة العربية والانتماء إلى الجامعة العربية، والدولية المتمثّلة في عضويّة الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وهي القرارات رقم 1559، 1680، 1701، 1757. أمّا العنوان “نحو الاستقلال الثالث” فيعني أنّ لبنان استقلّ عن الفرنسيين (1943)، وعن السوريين (2005)، ويناضل استقلاليّوه الآن للخلاص من الهيمنة الإيرانية أو الاحتلال الإيراني.
أمّا إعلان- وليس بيان – لقاء بيت مري، فهو إعلانٌ فكريٌّ وثقافيٌّ يرى أنّ “عروبة لبنان تقع في صلب تكوينه وذاكرته وثقافته وميثاقه ودستوره”. ثمّ يمضي إلى تعديد الأوائل التي أنجزها اللبنانيون: “فلبنان عبر أبنائه أوّل مَن أطلق النهضة الأدبية والفكرية في المجال العربي، وأوّل من حدّث وطوّر اللسان العربي الحديث، وأوّل مَن أنشأ حركات التحرّر العربي، وأوّل مَن قدّم صياغات فكرية عميقة للمشروع القومي العربي… وأوّل مَن كسر حاجز القطيعة بين الشرق والغرب.. إلخ”. وإلى ذلك فإنّ لبنان العربي هذا “كان بالقدر نفسه مدركاً وملتفتاً إلى ذاتيّته المميَّزة، لأنّ العروبة بالنسبة له ما كانت وحدةً لاغيةً للفوارق والاختلافات..”. ثمّ يعود الإعلان للقول إنّ الهوية اللبنانية في الوقت نفسه ما كانت مبدأً منافياً للعروبة أو منافساً لها، “بل هي حيّزٌ خاصٌّ داخل مجال العروبة الأوسع… كان لبنان عروبة متقدّمة ملهمة لأكثر الشعوب العربية”. وينتهي الإعلان إلى أنّ هذين الأمرين: الانتماء العربي، والهويّة اللبنانية، شكّلا معاً “معادلةً في غاية التوازن والدقّة، تفهّمها جميع العرب وقبلوها وثمّنوها عالياً…”.
لبنان إذن كيانٌ أصليّ وأصيل وجد في محيطه العربي الواسع حقيقته الحضارية. إنّما لماذا هذا كلّه؟ لأنّ ما يحدث في لبنان الآن هو أخطر حملة تُشنُّ على هويّة لبنان وانتمائه العربي “من خلال مسعى قوى محلية وخارجية من أجل إلحاقه بوصاية دول إقليمية غير عربية. ولذلك فإنّ اللبنانيين يعتبرون معركة دفاعهم عن عروبة لبنان جزءاً أساسيّاً من معركة بقاء لبنان. ولأنّ الأمر كذلك، فإنهم يدعون العرب إلى الوقوف مع لبنان “لأنّ العروبة بدون لبنان هي عروبة منتقَصة ومشوَّهة.. ولبنان من دون عمق وانتماء عربيّين كائنٌ هشّ وهجين في مهبّ رياح التغيير العاتية..”.
لقد أطلْتُ في الاقتباس من إعلان لقاء بيت مري، لأنّه في الحقيقة يعيد كتابة تاريخ “الفكرة اللبنانية” ليفهمها باعتبارها في الحقيقة “فكرة عربية” تتلاقى وتتشابك فيها من دون أن تشتبك الخصوصيّة (اللبنانية الفريدة) مع الانتماء الأوسع.
وهكذا يكون لدينا الآن ثلاث أفكار أو توجّهات عن طبيعة لبنان ومشكلاته:
1- التوجّه الاستقلالي السيادي الذي يدعو إلى مناضلة الاحتلال بتثبيت المبادئ والشرعيّات والعمل السياسي.
2- التوجّه الفكري الثقافي الذي يخشى على الهويّة والانتماء من التحويل الذي يُحدثه الإيرانيون (الذين لا يذكرهم بالاسم) من خلال حزب الله. ولذلك فهو يدعو العرب إلى مساعدة لبنان اللبناني الأصيل والعربي للفوز في معركة الانتماء والبقاء.
3- والتوجّه الثالث هو توجُّه لبنان المقاومة الذي لا يرى خطراً على لبنان إلا من إسرائيل، ويرى الاستعانة عليها بالمحور الإيراني-السوري، وبالطبع بسلاحه هو.
في العام 1989-1990، أعاد اللبنانيون كتابة ميثاقهم الوطني ودستورهم بمدينة الطائف السعودية. وبالسلم الذي أسّس له دستور الطائف أُعيد بناء لبنان العمراني والاقتصادي والسياسي بمساعدة المملكة العربية السعودية، وما قصّرت بقيّة دول الخليج العربي. لكنّ “دول المحور”، ولا أقصد ألمانيا واليابان، بل سورية وإيران، ما قبلت بالسلم اللبناني العربي والدولي، فقتلت رفيق الحريري رمز المشروع وحامله، واحتلّت بيروت عام 2008، وأسقطت حكومة سعد الحريري المنتخَبة عام 2011، واستمرّ مسار التخريب هذا إلى أن انتهينا إلى الوضع الحالي الرهيب، حيث يتعذّر على اللبنانيين العيش، ويعزلهم سلاح الحزب عن العرب والعالم، ويمنع حكومة “معاً للإنقاذ” العظيمة من الاجتماع.
ما العمل؟
لقد رأت فئات لبنانية عديدة من القوى الاستقلالية الحلَّ في الانتخابات النيابية في الربيع. وهي ترى أنّها تستطيع بالانتخابات إفقاد الحزب وحلفائه العونيين الأكثريّة في مجلس النواب. لكنّ محمد رعد رئيس كتلة الحزب البرلمانية يقول إنّه بغضّ النظر عن الانتخابات ونتائجها فإنّ لبنان لا يُحكم إلاّ بالتوافُق! والتوافق، منذ مؤتمر الدوحة عام 2008 يعني سيطرة الحزب وحلفائه على الحكومة دائماً.
أمّا رئيس الجمهورية فإنّه بدوره لا يرى فائدةً في الانتخابات، ولذلك اعترض على قرار مجلس النواب إجراءها في 27 آذار 2022، واعترض أيضاً على قرار المجلس بشأن انتخاب المغتربين، وأحال الاعتراضين على المجلس الدستوري. وفي الوقت نفسه قال كلاماً غامضاً حول عدم مغادرته القصر عند انتهاء مدّته آخر 2022 إن لم تجر الانتخابات البرلمانية والرئاسية على النحو الذي يرغبه.
إقرأ أيضاً: ذكرى الاستقلال أو صلاة الغائب
هناك بالطبع أخطارٌ على الهويّة والانتماء. لكنّ الخطر الأكبر حاليّاً على الدولة ومؤسّساتها الدستورية، وعلى حياة المواطنين. ولذلك فإنّ العمل السياسي والنضال السياسي ينبغي أن ينصبّا من جانب الاستقلاليّين جميعاً على المطالبة بالخلاص من سلاح الحزب، ومن الجنرال الرئيس ميشال عون، لكي يقوى ويبرز انتماء لبنان العربي، وتُستعاد دولته واستقلاله.