ما هي نتائج زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان للرياض وأبو ظبي والقاهرة؟
النتائج النهائية مرتبطة بالأهداف التي كانت مرسومة لها من واشنطن، لذلك نسأل: هل كان معيار النجاح هو استكشاف الآراء؟ تهيئة زعماء المنطقة لتطوّرات استراتيجيّة معيّنة؟ طمأنة الحلفاء العرب؟ ترميم أخطاء ارتكبتها إدارة بايدن؟ تفسير أو نفي تخلّي واشنطن عن المنطقة؟
الحقيقة أنّ الزيارة كانت مزيجاً من الاستكشاف والطمأنة والتفسير للتغييرات الجوهرية من خلال نقل مركز العمل الاستراتيجيّ الأميركيّ من المنطقة إلى منطقة المحيط الهادىء جنوب بحر الصين.
السعودية تعاملت بانفتاح مع أيّ إمكانيّة للحوار مع إيران بوساطة عراقية، لكن يبدو أنّ كلّ الأمور مرهونة بنتائج الاتفاق النووي في فيينا
كانت الزيارة، كما تصفها مصادر في كلٍّ من السعودية والإمارات ومصر، “شديدة الصراحة من قبل الأطراف العربية الثلاثة، وخَلَت تماماً من المجاملات السياسية المعتادة، لأنّ ما يتمّ التباحث فيه هو مستقبل العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن وكلٍّ من الرياض وأبو ظبي والقاهرة”.
محاولات جيك سوليفان ترميم “الأخطاء أو المراجعات الأميركية لعلاقاتها في المنطقة لم تنجح كما كان يتوقّع”.
يقول مصدر خليجيّ عاصر 4 إدارات أميركية، وتعامل معها بشكل لصيق: “يحصل الأميركيّون بامتياز على جائزة الأوسكار في تهشيم علاقاتهم بحلفائهم، ثمّ العودة لإصلاح الأخطاء وترميمها، وبعد أن ينجحوا في الترميم يعودون مرّة أخرى إلى تحطيم العلاقات”.
من هنا يتعيّن علينا فهم ماذا حدث في محطّات سوليفان الثلاث؟
في المحطّة الأولى، وهي السعودية، كانت تلك المحطّة أعقد المحطّات وأصعبها.
عناصر الصعوبة والإشكاليّة والتهديد بالخطر في العلاقات السعودية-الأميركية سبقت زيارة سوليفان للمنطقة.
قبل أن يهبط سوليفان أرض السعودية سبقه الآتي:
1- الإفراج عن تقرير هيئة الأمن الوطني المتّصل بملفّ اغتيال خاشقجي.
2- سماح البيت الأبيض بنشر بعض? وثائق جريمة 11 أيلول التي يمكن أن تُستخدَم من قبل أهالي الضحايا لمطالبة السعودية بتعويضات.
3- التحرّك داخل غرفتيْ التشريع في واشنطن لإصدار توصيات بعقوبات على السعودية.
4- سحب واشنطن لبطّاريّات وفرق تشغيل بطّاريّات وأنظمة دفاع باتريوت الأميركية، التي أرسلتها إدارة ترامب بعد هجوم الحوثيين على مصافي “أرامكو” في العمق السعودي.
5- ونأتي إلى أكثر القرارات سوءاً، وهو قيام إدارة بايدن بسحب تصنيف إدارة ترامب للحوثيين على أنّهم “إرهابيّون”، وهو خطأ عظيم اعترف وزير الخارجية بلينكين بأنّه أدّى إلى تمادي الحوثيين في أعمالهم العدائية.
يلاحظ المراقب المتابع للملفّ السعودي عدّة نقاط مهمّة في ما أحاط بزيارة سوليفان:
الأولى: إنّها أوّل زيارة لمسؤول بهذا المستوى من إدارة بايدن للسعودية، خاصة أنّها تأتي بعد “إلغاء أو تأجيل” زيارة وزير الدفاع “لويد أوستن” لخطأ تقنيّ في شكل إعداد جدول اللقاءات ينمّ عن “غباء سياسيّ وسوء تقدير من الجانب الأميركي”.
لم يرضَ الجانب السعودي أن يتجاهل الجانب الأميركي الدور المميّز والأساسي والجوهري لوليّ العهد السعودي في إدارة شؤون البلاد، وذلك من خلال رغبته في التعامل معه في هذه الزيارة على أنّه نظيره في منصب وزير الدفاع.
تعامل الجانب السعودي بكرامة وصراحة وشدّة “مع هذا الموقف الأحمق، وقام بتأجيل الزيارة بشكل فيه تلويح بالإلغاء”.
فهم سوليفان هذه الرسالة القاسية من الرياض، وفهم أنّ عنوان العلاقات الأميركية-السعودية له ثلاثة أبواب، وهي الملك، وليّ العهد، ونائب وزير الدفاع، وأن مفاتيحهم الثلاثة مع الأمير محمد بن سلمان.
ويمكن القول إنّ الأمير محمد كان واضحاً، محدّداً، صارماً في تحديد إشكاليّات التعامل مع واشنطن، خاصة في 3 أمور:
1- العلاقات الثنائية العسكرية بعد سحب الباتريوت، وتوقّف التسهيلات المعلوماتية وخدمات الاستطلاع والإنذار المبكر الأميركية، للضغط على الرياض من أجل إيقاف حرب اليمن.
2- تأكيد وليّ العهد أنّ العالم كلّه، ومبعوث الأمم المتحدة لليمن، والمبعوث الأميركي الخاصّ، جميعهم يشهدون على أنّ السعودية أظهرت كلّ النوايا الحسنة، وبذلت كلّ الجهود، وقدّمت كلّ المبادرات لإيجاد حلّ سياسيّ عادل في اليمن، لكنّ الجانب الحوثي يسعى إلى إفشالها بتوجيهات إيرانية.
3- إنّ السعودية تعاملت بانفتاح مع أيّ إمكانيّة للحوار مع إيران بوساطة عراقية، لكن يبدو أنّ كلّ الأمور مرهونة بنتائج الاتفاق النووي مع مجموعة الـ 5+1 في فيينا.
ويُعتقَد أنّ سوليفان أبدى في السعودية ما كرّره في الإمارات ومصر من قلق شديد وشكوك قوية في مدى صدقيّة طهران في العودة إلى طاولة المفاوضات، والتوصّل إلى نتائج إيجابيّة، خاصة بعد التقارير الإسرائيلية التي قدّمها رئيس الوزراء الإسرائيلي للرئيس بايدن في زيارته الأخيرة.
أكّدت هذه المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية أنّ “إيران اقتربت بشدّة من الوصول إلى مرحلة التخصيب المطلوبة لبدء المشروع النووي الإيراني بشكل عسكري”.
تقول مصادر أميركية إنّ سوليفان المنتمي عاطفياً وفكرياً إلى تراث وأفكار إدارة الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، لا يزال يؤمن بالتقسيم السياسي السائد وقتها
الأهم أنّ سوليفان قد فهم في هذه الزيارة عن قرب وبشكل شخصيّ مَن هو وليّ العهد السعودي، وما هو ثقله الوازن في صناعة القرار الأساسيّ أمس واليوم وغداً.
كانت الإشكاليّات في أبو ظبي أقلّ بكثير من تلك التي كانت في المحطّة السعودية.
يُدرك سوليفان بقوّة عدّة أمور جوهرية لها علاقة بملفّ التعامل مع دولة الإمارات يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1- تقول مصادر أميركية إنّ سوليفان المنتمي عاطفياً وفكرياً إلى تراث وأفكار إدارة الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، لا يزال يؤمن بالتقسيم السياسي السائد وقتها الذي يفيد “بأنّ الإمارات قوة اعتدال مركزية لا غنى عنها في منطقة الخليج”.
2- انطلاقاً من تلك الخلفيّة يؤمن سوليفان بما كتبه أوباما في مذكّراته عن شخصيّة وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، الذي وصفه بأنّه سياسيّ ذكيّ ومحنّك ومن أفضل زعماء المنطقة.
3- إنّ إقدام الإمارات على توقيع اتفاقات دبلوماسية مع إسرائيل، هو مُتغيّر استراتيجي في المنطقة أدّى إلى فتح الباب أمام انضمام دول أخرى.
4- إنّ الإمارات الآن هي لاعب جوهريّ ورئيسيّ في ملفّات إقليمية تبدأ من الخليج إلى ليبيا، ومن سوريا إلى لبنان، ومن الصومال إلى دول الساحل الإفريقي، ومن تونس إلى السودان.
فهم سوليفان في زيارته لأبو ظبي رؤية القيادة في ملفّات:
1- اليمن.
2- مشروع الدولتيْن في فلسطين وإسرائيل.
3- مدى جدّيّة إيران في إيقاف تدخّلاتها في المنطقة، والشكّ في صدقيّة التعهّدات الإيرانية.
وعلى الرغم من أنّ سوليفان ليس بائعاً للسلاح الأميركي، إلا أنّ القرار السياسي الأعلى يمرّ بمكتبه في البيت الأبيض، لذلك لم يفُت سوليفان أن يُدرك أنّ إتمام صفقة الـ”إف 35″ الأميركية مع الإمارات هي مسألة يجب أن لا يستمرّ تعطيلها تحت حجّة قيام إدارة بايدن بمراجعة صفقات السلاح للمنطقة.
لمس سوليفان “بدقّة وعن قرب وضوحَ رؤية الشيخ محمد بن زايد في المسار الحالي للعلاقات بين البلدين، وتأكيد الإمارات أنّ انتقال مركز الاهتمام الاستراتيجي لإدارة بايدن من المنطقة إلى المحيط الهادىء وجنوب بحر الصين يجب أن لا يؤثّر على التوازن الإقليمي في المنطقة، ويجب أن لا يوقعها في “الفراغ” أو “المجهول”.
في مصر كانت محطّة أخرى صعبة على سوليفان لعدّة أسباب:
1- تأثُّر سوليفان ابن إدارة باراك أوباما التي راهنت على الربيع العربي، بنظرية “السوفت إسلام” التي بمقتضاها تمّ تأهيل وحماية الإخوان المسلمين لحكم مصر.
2- سبق زيارة سوليفان بأسبوعين قرار الإدارة الأميركية بحجب جزء من المعونة الأميركية العسكرية لمصر، وتعليق مبلغ 135 مليون دولار لحين اتّخاذ القاهرة خطوات لتحسين أوضاع حقوق الإنسان.
3- عدم رضاء مصر عن حجم المشاركة الأميركية في كمّيّة الاستثمارات المباشرة في الاقتصاد المصري الذي حقّق بشهادة مؤسسات التصنيف الدولية وصندوق النقد الدولي واحداً من أعلى معدّلات التنمية والربحيّة في السنوات الأخيرة.
المؤكّد أنّ الرئيس السيسي تجاهل بحكمة وذكاء فتح ملفّ تعليق المساعدات العسكرية، وركّز على حثّ الإدارة الأميركية على لعب دور نشط وإيجابي في ملفّ سدّ النهضة، والضغط من أجل انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا.
لم يتجاهل سوليفان دور مصر الأساسي والمهمّ في تحقيق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، خاصة بعد التقدير العالي الذي نقلته تل أبيب من خلال نتانياهو سابقاً، والنتائج الإيجابية لزيارة نفتالي بينيت الأخيرة لمصر.
بعد هذا كلّه نسأل: ما هي خلاصة نتائج رحلة سوليفان إلى مصر والسعوديّة والإمارات؟
– هي رحلة تبديد مخاوف بعد الخروج الأميركي المرتبك من أفغانستان.
– هي جولة أكّد فيها أنّ انتقال مركز الاهتمام الاستراتيجي من المنطقة إلى المحيط الهادئ وجنوب بحر الصين، لا يعني الغياب أو الفراغ الأميركي.
– هي إشارةٌ إلى أنّ الإشادة بالدور القطري في ملفّ أفغانستان لا تعني استبدال الأدوار المهمّة والأساسية والثقل الكبير لهذه الدول بالدوحة.
تتعلّق أهميّة زيارة سوليفان بالتوقيت الحسّاس في مرحلة إعادة تشكيل ومراجعة الاستراتيجية الكونية لواشنطن في ظل إدارة بايدن، في عالم مرتبك سياسياً، مأزوم اقتصادياً، يعيش حالة من السيولة المخيفة، وحالة غير مسبوقة من عدم التيقّن.
ترجع أهمّيّة دور مستشار الأمن القومي الأميركي إلى أنّه يتعلّق بالرجل الأقرب إلى أذن الرئيس الأميركي.
إقرأ أيضاً: أميركا – السعوديّة: اللي ما يعرف الصقر… يشويه
من هنا يمكن فهم زيارة الشيخ محمد بن زايد لفرنسا وبريطانيا ذات التوقيت الشديد الذكاء.
ومن هنا يمكن فهم إنجاز مصر لصفقات كبرى مع روسيا والصين وفرنسا وإيطاليا.
نحن في عالم كونيّ في طور التشكّل، حيث الجميع يعرف كيف يبدأ، لكن، قطعاً، لا أحد يعرف بعد شكله النهائيّ.
المهم أن نفهم العالم الجديد، ونفهم الواقعيّة الجديدة لواشنطن، والأهمّ أن يفهمونا على أنّنا أصدقاء، وأنّنا لسنا تابعين ولن نكون.