“المملكة ليست صندوقاً لبقايا كوارث أميركا السّياسيّة في المنطقة ونفايات أخطائها”. هكذا أجاب مسؤول خليجي أحد الصحافيين، في مجلس خاصّ، ردّاً على سؤال عن سبب عدم استقبال المملكة العربية السعودية لاجئين أفغاناً، بناءً على طلب أميركي.
جاء هذا الجواب قبل أيام من رفض وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان إعطاء موعد لوزير الدفاع الأميركي الجنرال أوستن لويد. وزير دفاع القوّة العظمى في العالم. وزير دفاع الإمبراطورية التي قيل يوماً إنّها تحكم العالم وحيدةً، كقوّة “أحاديّة”.
الجنرال لويد أعلن بنفسه أنّه “ينتظر موعداً”. وفي هذا مؤشّر إلى الهوّة الكبيرة التي باتت تفصل بين السعودية وإدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن. الإدارة التي بدأت عهدها بالتضييق على المملكة لدفعها إلى وقف الدفاع عن نفسها في اليمن، بإيقاف صفقة سلاح ضرورية، ثمّ لوّحت بملفّ “11 أيلول”، الذي تبيّن لاحقاً أنّ قيادة إيران أقرب إلى التورّط، وأنّ قيادة المملكة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالعدوان الهمجيّ على نيويورك.
الموقفُ الخليجيّ تجاه لبنان ثابتٌ ولم يتغيّر. المُتغيِّرُ الذي طرأ هو السّياسة الأميركيّة مع مجيء إدارة جو بايدن، التي سارعَت إلى “تجيير” الملفّ اللبنانيّ لفرنسا
لكن ما تأثير هذا كلّه على لبنان؟ وكيف انعكس هذا على يوميّات اللبنانيين؟
لطالما ظنّ كثيرون أنّ السعودية هي الذراع الماليّة لأميركا، وأنّ أميركا هي الذراع العسكرية والأمنيّة للسعودية. معادلة كانت مغرية ومطمئنة لِمَن يريد أن يبسّط المشهد السياسي بين الخليج وأميركا.
لكنّ هذه الصورة ليست حقيقية. وها هي أميركا المنسحبة من الشرق الأوسط، على وشك أن تدفع فاتورة كبيرة. فالمملكة يمّمت وجهها شطر روسيا، كما فعل الرئيس المصري جمال عبد الناصر حين تخاذلت أميركا عن دعمه، وحصل على دعم لتأميم قناة السويس، ثمّ على الدعم السياسي والخبرات العسكرية، التي سمحت لجيش عبد الناصر بعبور القناة في عام 1973 بعد 3 سنوات من رحيله. وهو الاتجاه نفسه للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي اعتمد للجيش المصري مصادر متنوّعة دولياً محرراً بذلك الجيش من “كزاجية” الادارة الأميركية.
اليوم يفعل الأمير محمد بن سلمان الأمر نفسه. فقد وقّعت المملكة اتفاقية دفاعية مشتركة مع روسيا فلاديمير بوتين، بقيت قيمتها وبنودها غير معلومة، في وقت كان يُبلغ طالبي الموعد في البنتاغون بأنّ وقته لا يسمح باستقبال الجنرال لويد.
يعرف قادة المملكة أنّ أميركا الراحلة من الشرق الأوسط، يمكن استبدالها، لكنّ المملكة الباقية هنا، لا يمكن استبدالها.
السعوديّة القويّة
كلّ هذا يشير إلى أمرٍ لا يمكن إغفاله: “السّعوديّة قويّة أمام أميركا”، و”السعوديّة تعرف قدر قوّتها”، ولا تتهاون في كرامة صورتها، ولا يمكن أن تخضع لإدارة بايدن، وأن تسكت على الطريقة التي يجري التعامل معها بها.
وسط كلّ هذا المشهد، يبقى التّعاطي السّعوديّ مع أميركا بشأن الملفّ اللبنانيّ مُجرّد تفصيل. إذ رفَضت السّعوديّة 3 مرّات طلبات أميركيّة بشأن مُساعدة لبنان:
الأولى: أثناء لقاء وزيريْ الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن والفرنسيّ جان إيف لودريان مع نظيرهما السّعوديّ الأمير فيصل بن فرحان آل سعود خلال لقائهم على هامش اجتماع وزراء الخارجيّة لدول مجموعة الـ20 في إيطاليا. حينئذٍ لم يُبدِ وزير الخارجيّة السّعوديّ حماسةً للطّلب الأميركيّ – الفرنسيّ.
الثّانية: زيارة السّفيرتين الأميركيّة والفرنسيّة لدى لبنان دوروثي شيا وآن غريو إلى الرّياض، حيث طلبتا مُساعدة السّعوديّة لدعم الجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة اللبنانيّة. وفي هذا الإطار يذكُر مصدرٌ أميركيّ لـ”أساس” أنّ السّفيرتين عادتا من الرّياض بـ”خيبة أملٍ”. إذ إنّ الاستقبال السّعوديّ لم يكن على قدر المُهمّة التي سافرَتا لأجلها. وسمعتا في الرّياض ما سمعه وزيرا الخارجيّة في إيطاليا من أنّ المملكة لن تُساعد لبنان ما دام مصدرَ تهديدٍ لأمنها والأمن العربيّ، وما دام حزب الله مُصرّاً على الإخلال بالتّوازن السّياسيّ في البلاد عبر الهيمنة على الرّئاسات الـ3 ومجلسيْ النّواب والوزراء.
يكشف مصدرٌ أميركيّ مطّلع لـ”أساس”، أنّ إدارة بايدن قرّرت غضّ النّظر عن السّفينة الإيرانيّة لأسباب تتعلّق بعدم رغبتها في إحداث تصعيدٍ في الشّرق الأوسط
الثّالثة: أثناء مُشاركة السّعوديّة في مؤتمر دعم لبنان الذي عقدته فرنسا في الذّكرى السّنويّة الأولى لتفجير مرفأ بيروت. فعلى الرّغم من جمع المُؤتمر لـ370 مليون دولار من المُساعدات، كان ثُلثاها (218 مليون دولار) من واشنطن وباريس، إلّا أنّه لم يكن على قدرِ الآمال بسبب غياب مفتاح الدّعم العربيّ، السّعوديّة.
الموقفُ الخليجيّ تجاه لبنان ثابتٌ ولم يتغيّر. المُتغيِّرُ الذي طرأ هو السّياسة الأميركيّة مع مجيء إدارة جو بايدن، التي سارعَت إلى “تجيير” الملفّ اللبنانيّ لفرنسا بعد اتّصالٍ بين الرّئيسين بايدن وإيمانويل ماكرون في شهر كانون الثاني الماضي، كان “أساس” أوّل مَن كشف عن تفاصيله.
أزمة أميركيّة – فرنسيّة
اليوم، بدأ الشكّ يتسرّب إلى “سرّ الخلطة” الأميركية الفرنسية حول لبنان. وذلك بعد الأزمة المُستجدّة بين البلدين، إثر إعلان أستراليا أنّها ستلغي صفقة قيمتها 40 مليار دولار مع مجموعة نافال الفرنسية لبناء أسطول من الغوّاصات التقليدية، وأنّها ستبني بدلاً منها 8 غوّاصات تعمل بالطاقة النووية بتكنولوجيا أميركيّة وبريطانية بعد إبرام شراكة أمنيّة ثلاثية.
اعتبرت فرنسا أنّ هذه المُبادرة “طعنة في الظّهر”، ووصلت إلى حدّ استدعاء سفيريْها في أميركا وأستراليا للتّشاور.
أمّا في لبنان فكانت “بصمات” التجيير الأميركي لفرنسا واضحة المعالم في حكومة الرّئيس نجيب ميقاتي التي وُلِدَت بعد تواصل هاتفيّ بين الرّئاسة الفرنسيّة والرّئاسة الإيرانيّة التي تسلّمَ زمامَ أمورها المُتشدّدُ إبراهيم رئيسي.
هي الحكومة التي وُلِدَت من رحمِ السّياسة بالكامل، بعيداً عن المطالب التي كانت حاضرة بشكلٍ دائم أثناء ولاية الرّئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب: “حكومة اختصاصيّين مُستقلّين غير حزبيّين”.
وهي الحكومة التي سارعَت مُرشّحة بايدن لمنصب مساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشّرق الأدنى السّفيرة باربرا ليف إلى التّرحيب بتشكيلها، آذِنةً ببداية عهدٍ أميركيّ جديد نحو لبنان.
فما هي معالم السّياسة الأميركيّة المُقبلة تجاه لبنان، بعد 4 سنواتٍ من التّصلّب والعقوبات في عهد الرّئيس السابق دونالد ترامب ووزير خارجيّته مايك بومبيو ومساعده ديفيد شينكر؟
بلا أدنى شكّ، تُعدّ طلبات أميركا من السّعوديّة لمُساعدة لبنان تحوّلاً كبيراً في سياستها. إذ وقفت واشنطن سدّاً منيعاً في عهد ترامب أمام مُحاولات مُساعدة لبنان، رابطةً هذه المساعدة بتحقيق شروطها المُعلنة وغير المُعلنة المُتعلّقة بترسيم الحدود البحريّة مع الاحتلال الإسرائيليّ، وحلّ مسألة الصّواريخ الدّقيقة التي حصلَ عليها حزب الله من إيران، وانسحابه من سوريا والعراق واليمن.
اليوم، لا يُمكِن إغفال مؤشّرات سياسيّة ظهرت أخيراً على السّاحة المحليّة، غير مسألتيْ الطّلب من السّعوديّة ومُباركة ولادة الحكومة، تدلّ على تحوّلاتٍ في التّعاطي الأميركيّ مع الملفّ اللبنانيّ:
قبل أسابيع قليلة، مع بدء إحياء مراسم ذكرى عاشوراء، التي كانت مناسبة للأمين العامّ لحزب الله السّيّد حسن نصرالله ليُجدّدَ الكلام عن “حصارٍ أميركيّ”، وضرورة كسره، وكسر ما يُسمّيه الهيمنة الأميركيّة، وكَيْل الاتّهامات للسّفيرة دوروثي شيا بالتّدخّل في الشّؤون اللبنانيّة، كان المُفاجئ غياب أيّ ردٍّ أميركيّ على كلام نصرالله.
كان غياب الرّد هذا يعاكس ما كان يجري أثناء عهد ترامب الذي شهِدَ عدّة “اشتباكاتٍ” كلاميّة بين نصرالله وشيا، ومعها ديفيد شينكر وحتّى وزير الخارجيّة مايك بومبيو. وكُلّنا يذكر قضيّة القاضي محمّد مازح التي كانت نِتاج إحدى هذه الجولات.
وفي يومِ العاشر من المُحرّم، كان نصرالله يُعلن انطلاق “أولى السّفن الإيرانيّة” المُحمّلة بالمحروقات إلى لبنان. ووصلت حمولتها من ميناء بندر عبّاس الإيرانيّ إلى الأراضي اللبنانيّة عبر قافلة صهاريج آتية من سوريا بعد إفراغ حمولتها في مصفاة بانياس السّوريّة. وكان التّعليقُ الأميركيّ خجولاً أيضاً.
تُعدّ طلبات أميركا من السّعوديّة لمُساعدة لبنان تحوّلاً كبيراً في سياستها. إذ وقفت واشنطن سدّاً منيعاً في عهد ترامب أمام مُحاولات مُساعدة لبنان، رابطةً هذه المساعدة بتحقيق شروطها المُعلنة وغير المُعلنة
غضّ النظر عن سفن إيران
يكشف مصدرٌ أميركيّ مطّلع لـ”أساس”، طلب عدم نشر اسمه، أنّ إدارة بايدن قرّرت غضّ النّظر عن السّفينة الإيرانيّة لأسباب تتعلّق بعدم رغبتها في إحداث تصعيدٍ في الشّرق الأوسط بين حزب الله وإسرائيل. وقال المصدر إنّ الحزب تبلّغ هذا الأمر عبر قنواتٍ استخباريّة. وأشارَ إلى أنّه لو أُعيدَ انتخاب ترامب لولاية ثانية، لما سمِعَ أحدٌ بإعلان نصرالله عن انطلاق السّفينة الإيرانيّة ليقينه أنّها لن تصل إلى وجهتها الأخيرة. وسأل المصدر: “لماذا لم يُقدِم الحزب على هذه الخطوة قبل سنة؟ أمرٌ يستحقّ التفكير فيه جدّيّاً…”.
ونبقى في يوم العاشر من المُحرّم. إذ أعلنَ قصر بعبدا بعد ساعات قليلة على خطاب نصرالله أنّ السّفيرة شيا أبلغت الرّئيس ميشال عون قراراً من إدارة بلادها بمتابعة مساعدة لبنان لاستجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا، وتسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى شمال لبنان.
وهذا القرار هو تحوّلٌ أميركيٌّ مُهمّ في التّعاطي مع لبنان. وتجدُر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ المبعوث الأميركيّ الخاصّ إلى سوريا في عهد ترامب جويل رايبرن كان قد أبلغ بعض اللبنانيين المُقرّبين منه أنّ بلاده لن تمنح لبنان استثناءً من عقوبات قيصر لاستجرار الطّاقة والكهرباء عبر سوريا.
بعد القرار، توجّه وفدٌ لبنانيّ رسميّ إلى سوريا. وتشير المعلومات إلى أنّ هذه الزّيارة حظيت بغضّ نظرٍ أميركيّ يُشبه قضيّة الباخرة الإيرانيّة ما دام إطارها تقنيّاً ولم تتطوّر إلى لقاءٍ سياسيّ. يُشار إلى أنّ أحد أهمّ الأسباب التي أدّت إلى إدراج اسم النّائب جبران باسيل على لوائح العقوبات الأميركيّة كان نيّته زيارة دمشق وتطبيع العلاقات بين لبنان ونظام الأسد.
لكن غض الطرف الأميركي لم يكفي مصر والأردن ولبنان، بل أن الدول الثلاث طلبت من الادارة الأميركية إعلاناً خطياً بالموافقة على استجرار الكهرباء المصرية عبر الأردن إلى لبنان مروراً بسوريا تجنباً لاستعمال لاحق محتمل لعقوبات قيصر على واحدة من هذه الدول ولذلك كان الرئيس نجيب ميقاتي واضحاً في تأكيده أن صهاريج المازوت الإيراني تمت خارج النطاق الرسمي للدولة اللبنانية أيضاً.
تزامناً مع كتابة هذا التّقرير، كان لبنان يتسلّم ما قيمته 2 مليار دولار من صندوق النّقد الدّوليّ، وهي عبارة عن قيمة حقوق السّحب الخاصّة. هنا أيضاً لا يُمكن إغفال الدّور الأميركيّ. إذ تُعتبر واشنطن أكبر مُساهم في الصّندوق وفي البنك الدّوليّ، ولذا تتحكّم بقراريهما الماليّ – السّياسيّ. وبكلمات أخرى، لم يكن هذا المبلغ وغيره ليصلَ إلى لبنان اليوم أو مُستقبلاً لولا الموافقة الأميركيّة.
إقرأ أيضاً: بالتفاصيل: بايدن فوّض ماكرون “شرطيًا” على لبنان
حتّى السّاعة، كلّ ذلك يشير إلى انعطافةٍ دراماتيكيّة في السّياسة الأميركيّة تجاه لبنان، قد تكون مُرتبطةً بتقديم “الجزرِ” إلى القيادة الإيرانيّة الجديدة لدفع محادثات فيينا النّوويّة قُدُماً، ومعها إراحة إدارة بايدن من همّ الاتفاق النّوويّ للتفرّغ للقضايا المرتبطة بروسيا والصّين، أو قد تكون تكراراً لمرحلة 2015، يوم سلّمت الإدارة الأميركيّة المنطقة لإيران وحلفائها. وربّما هذا ما سيزيد من صلابة الموقف السّعوديّ.
في كلّ الأحوال، تبقى السعودية خارج “التسوية المرحليّة” التي أنتجت حكومة ميقاتي. وربّما تخرج أميركا من هذه التسوية إذا توسّع الخلاف مع فرنسا، وإذا لم تردّ إيران على تحيّة تمرير سفن النفط وتسهيل حكومة لبنان، بأحسن منها.
والأيّام كفيلة بالإجابة…