“المصالح” المشتركة بدل “العيش المشترك”

مدة القراءة 3 د

أستيقظ في الصباح فأبادر إلى غسل فمي بمعجون للأسنان مدعوم. وأحلق ذقني بمعجون مدعوم. ثمّ أتناول فطوري قطعة من الجبن المصنوع من حليب مدعوم، وأشرب فنجاناً من القهوة المصنوعة من بن مدعوم، وسكر مدعوم، والمغليّة في فرن يعمل بالغاز المدعوم.

بعد ذلك أتوجّه إلى مكتبي في سيارة أجرة تسير ببنزين مدعوم. وأُضيء مكتبي بتيار كهربائي مدعوم. الأقلام التي أستعملها والأوراق التي أكتب عليها كلّها مدعومة.. مدعومة.

أعود ظهراً إلى المنزل لتناول الغداء. اللحم مدعوم. السمك مدعوم. الأرزّ مدعوم. الزيت مدعوم.

بعد الغداء أتناول فنجاناً من الشاي المدعوم مع حبّة من الشوكولا المدعوم.

تحوّلت الدولة اللبنانية من صاحبة رسالة يُقتدى بها في العيش المشترك إلى صاحبة رسالة في الانهيار الأخلاقي والفشل السياسي والنهب المشترك

وقبل أن أخلد إلى النوم في المساء أتناول حبّات الدواء المدعوم. وأغمض عينيّ على شتيمة الدولة الفاشلة واللصوص من المسؤولين الذين ينهبون خيراتها ويسرقون اللقمة من فم الفقير المحتاج. وأندب حظّي لأنّ مدّخرات اليوم الأبيض تبخّرت في اليوم الأسود. واليوم الأبيض كان يوم الدعم. وكان فعلٌ ماضٍ. أمّا اليوم الأسود فهو يوم دفع فاتورة الدعم من أموال المودعين، وهو فعل مضارع. أمّا فعل المستقبل فعلمه عند الله والراسخين في العلم. وهو عِلم مدعوم، لأنّه عِلم مستورَد مثل الطحين والزيت، ومثل البنزين والمازوت. صحيح أنّه لا يصل بواسطة بواخر تمخر مياه البحر إلى مرفأ أصبح في خبر كان، ولكنّه يصل عبر تعليمات وتوجيهات تمخر خلايا العقل والوجدان.

كان لبنان دولةً آمنةً مطمئنّةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان: القمح من كندا، واللحم من البرازيل، والسمك من مصر والمغرب، والكافيار من روسيا، والسكّر من كوبا، والأجبان من فرنسا، والمعجّنات من إيطاليا، والبهارات وحتى البصل من الهند.. إلخ.

وكان لبنان يسدِّد مستحقّات ذلك كلّه بفائض أموال تتدفّق عليه من دول الخليج العربي، ومن المغتربين المنتشرين بين إفريقيا وأميركا الجنوبية.

إلا أنّ المؤتَمنين على لبنان هذا كفروا بأنعم الله، فأذاقهم الله، وأذاقنا معهم، لباس الجوع والخوف. وهكذا انتقل لبنان من مجتمع الوفرة إلى مجتمع الندرة. ومن مجتمع يأتيه رزقه رغداً من كلّ مكان إلى مجتمع يهاجر أبناؤه قهراً إلى أيّ مكان.

وتحوّلت الدولة اللبنانية من صاحبة رسالة يُقتدى بها في العيش المشترك إلى صاحبة رسالة في الانهيار الأخلاقي والفشل السياسي والنهب المشترك.

بعضهم عمل على نهب أموال المودعين، وبعضهم عمل على نهب حقوق ضحايا تفجير المرفا، وبعضهم عمل على نهب استثمارات الدولة ومؤسساتها، وبعضهم عمل على نهب الدولة ذاتها، سيادةً وكرامةً وقراراً.

إقرأ أيضاً: جولة افتراضيّة في مدينة مقتولة

يرهقنا انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع الدعم الذي كنّا نتمتّع به والذي تدجّنّا عليه لعقود طويلة في المأكل والمشرب. ولكن يرهبنا استمرار تدفّق الدعم الخارجي الذي يغرق في فيضه أولو الأمر عندنا (هل هم فعلاً أولو أمر). فبين وقف الدعم الداخلي للأدوية والموادّ الغذائية والمحروقات، وتضخّم الدعم الخارجي للقوى السياسية تثبيتاً لولاءاتها والتزاماتها بمشاريع ومخطّطات هذه القوى الخارجية، يتشكّل مجتمع جديد، وتُصنع صيغة جديدة لوطن جديد تحلّ فيه قاعدة المصالح المشتركة محلّ قاعدة العيش المشترك.

المهمّ بقاء أمر مشترك.. ومدعوم.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…