قِفْ في وسط المدينة. أنظر حولك وتأمّل معالم المكان. إن كنت من أبناء بيروت أو ممّن عرفوها قبل الحرب سيقفز إلى ذاكرتك على الفور شريط ملوّن لتفاصيل الحياة في ساحة البرج، بناسها وحركتها وغليانها وتنوّعها وجمالها، أي لدبيب الدماء في الشرايين من قلب بيروت وإليه. سوف تستعيد حواسّك روائح وأصواتاً لدورة عيش طبيعية في وطن طبيعي، هانئ ومزدهر ومتألّق، يخطو كلّ يوم خطوة جديدة في مسار الحداثة.
لكنّك، إذ تنتبه إلى أنّ الزمن محا ذلك كلّه، سوف تغرق في حزن عميق. كيف لا، وقد صار قلب المدينة الساكن في وجدانك صحراء بلا حياة، تكسّرت فيها وعلى تخومها أحلام شابّات وشبّان ظنّوا ذات تشرين أنّهم قاب قوسين أو أدنى من صناعة وطن جديد. دُفِنت أحلامهم وتفرّقوا ليعود المكان إلى سابق عهده. مساحة من الأرض يلفّها سكون غامض وتحدّها مقبرتان.
تموت المدن حين تفقد روحها. صحيح أنّ الجغرافيا تبقى، والأماكن لا تزول، لكنّ الاندثار الكامل يحدث حين تُرحَّل فكرة المدينة ومعناها ودورها إلى كتب التاريخ
الأولى لجهة الغرب. يرقد فيها كبير من كبار لبنان شطبوه بطنّين من المتفجّرات، ليلغوا مشروعاً وطنياً تحديثياً هائلاً لا يتناسب مع رؤية الغرف السوداء في “محور الممانعة”، وتصوّرها لمستقبل لبنان ودوره في محيطه الإقليميّ وفي العالم. قيل يومها إنّ مَن قتل رفيق الحريري قتل بيروت ولبنان. لم نصدّق وقلنا إنّ بيروت لا تموت.
أمّا المقبرة الثانية فتقع لجهة الشرق. بلا قبور ولا شواهد. فقط مياه مالحة وقمح محروق وتراب مخلوط بأشلاء بشرية ورائحة دماء وأمونيوم وسواد عميم. مقبرة أقامتها على رصيف أنشط مرفأ في شرق المتوسط عقول شريرة وأخرى متواطئة، بقصد أو بفعل قلّة المسؤولية وانعدام الكفاءة. هنا كان الهول العظيم الذي توّج مساراً، بدأه سليم عياش ورفاقه قبل ستّ عشرة سنة، وبه اكتمل موت المدينة.
قِفْ أنّى شئت في متفرّعات الساحة. ليس هناك سوى الفراغ. خَلَت الأماكن وانفرط عقد الروّاد، وارتاح كارهو بيروت لأنّهم ما عادوا مضطرّين إلى إشهار هذه الكراهية بالتجوال اليومي المتكرّر أمام المقاهي والمطاعم والأسواق بسيّاراتهم التي تصدح مكبّراتها بأصوات اللطميّات وخطابات السيّد وأناشيد الانتصارات التي لا تنتهي.
قِفْ في ساحة النجمة. لن تجد سوى الخواء بديلاً من ذلك الصخب الجميل لألوف مؤلّفة من المواطنين والسيّاح، كانت تثبت كلّ يوم إيماناً لا يتزعزع بأنّ بيروت مدينةٌ للحياة. صار المكان بقدرة قادر سجناً مسيَّجاً بكلّ أنواع العوائق، واحتلّ العدم زوايا الألفة كاتباً فصلاً جديداً من فصول موت المدينة.
إبتعد عن هذه البقعة الحزينة وقُمْ بجولة في الأحياء. المدوّر والرميل والكرنتينا وكرم الزيتون ورأس النبع والبسطة والمزرعة وغيرها. سترى بأمّ العين اللعنة التي حلّت على بيروت.
وهج بيروت انطفأ، والمدينة المتخيَّلة التي نريد زالت بزوال وظيفتها الاقتصادية والماليّة والسياحية، ودورها الثقافي وريادتها العلمية
فوضى عارمة في كلّ مكان وفي كلّ شيء. غضب مكبوت وإحساس عامّ بالظلم والذلّ والمهانة والاحتقار. لا يعرف أبناء هذه الأحياء لماذا تُشنّ هذه الحرب عليهم. يشعرون، كما يشعر المواطنون في كلّ أنحاء لبنان، أنّ حكماً بالإبادة الجماعية صدر بحقّهم لذنب لا يعرفون ما هو. أموات في شكل أحياء متروكون لرحمة ربّ الخلق، وغارقون في فقر وعوز إلى حدود لا تليق بكِرام الناس. آباء سُحِقت كبرياؤهم لافتقارهم إلى القدرة على ما يسدّ حاجة عوائلهم. عساكر يتناولون وجبة واحدة في اليوم، وبعضهم لا يتيسّر له سوى الخبز الجاف. هل من اسم آخر لكلّ هذه القسوة سوى موت عاصمة وموت وطن؟
ولتكن خاتمة جولتك في ما كان يُعتبر واجهة بيروت الحديثة والشارع الأجمل والأكثر حيويّة في بلاد العرب. لم يبقَ شيء من ألق شارع الحمراء وتنوّعه وفرادته وأناقته وطليعيّته التي جعلت بيروت مشاعاً للفرح ومصنعاً للإبداع. لَفَظ الشارع أنفاسه منذ زمن. حلّ القبح والفظاظة في كلّ زواياه فصار زقاقاً ذا ملامح ريفية، يحتلّه الشحّاذون وتتأبّط أعمدته عشرات صناديق التبرّعات تطلب الصدقة لأهل الممانعة.
هل تموت المدن؟
نعم تموت حين تفقد روحها. صحيح أنّ الجغرافيا تبقى، والأماكن لا تزول، لكنّ الاندثار الكامل يحدث حين تُرحَّل فكرة المدينة ومعناها ودورها إلى كتب التاريخ. الأمثلة البعيدة والقريبة على ذلك كثيرة، من روما العظيمة عاصمة العالم إلى أثينا مهد الحضارة الغربية وموطن الفلسفة والديموقراطية، إلى الإسكندرية ذات المنارة العجيبة والمكتبة العامّة الأقدم في التاريخ، إلى القسطنطينية الجبّارة وإزمير درّة الأناضول وبغداد العبّاسية ودمشق الأمويّة وطرابلس الشام دار العلم وأرض الرباط.
كلّها حواضر ماتت دوراً وإشعاعاً وهيبةً، وصارت حكايات مقيمة في المجلّدات على رفوف المكتبات. لكنّنا نحن، أبناء بيروت، نعيش منذ زمن حالة إنكار لِما أصابنا ويصيبنا. نرفض الاعتراف بالواقع ونقيم عقلاً وروحاً في صور بالأسود والأبيض اُلتُقِطت في زمن آخر، مصرّين على أنّ مدينتنا ستنتصر على المحنة وستعود أفضل ممّا كانت.
إقرأ أيضاً: الفساد والسلطة في لبنان
وهج بيروت انطفأ، والمدينة المتخيَّلة التي نريد زالت بزوال وظيفتها الاقتصادية والماليّة والسياحية، ودورها الثقافي وريادتها العلمية.
يوماً ما ستولد بالتأكيد بيروت أخرى لا نعرف طبيعتها. سيصنعها أبناء اللبنانيين الناجين من المحرقة الراهنة. وربّما عاد أبناؤنا وأحفادنا من مغترباتهم البعيدة ليجبروا خواطرنا وينعشوا أرواحنا المعذّبة، ويساهموا في صنع فكرة ناجحة ودور جديد لعاصمة لبنان أمّ الشرائع ورفيقة البحر… ربّما.