بدت عاصمة أفغانستان، كابول، أشبه بجدار برلين في الأسابيع الأخيرة، لكن معكوساً هذه المرّة. ففي 1990 هدم الغرب الجدار الفاصل بين برلين الغربية، اسماً ومعنىً، وبين برلين الشرقية، السوفياتية. في حين أنّه في آب 2021 هدمت “طالبان” الجديدة جدار كابول، فخرجت الحداثة بالطائرات الغربية، محمِّلة نحو 200 ألف أميركي وأوروبي وأفغاني، ودخلت القبلية المتشدّدة إسلامياً، معلنةً زمناً جديداً في المنطقة كلّها.
هكذا شهدنا انهزام “الحداثة” أمام الزمن المتوقّف في الشرق الأوسط. ونحن، القابعين خلف الجدار الأميركي في برلين القرن الواحد والعشرين، أي “كابول”، عاصمة أفغانستان وعاصمة الزمن الشرقي الجديد، أوّل من سيدفع الثمن، في الشرق العربي، وشمال إفريقيا.
يظنّ كثيرون أنّ “تأثير الفراشة” سيطول قبل أن يطاول أعناقنا اللبنانية، لكنّ الحقيقة أنّ سقوط كابول هو حدث لبناني، وبيروتيّ بشكل لا يمكن الهروب منه.
فكيف ولماذا سندفع الثمن الكبير؟
حين سقط جدار برلين، كان ذلك إيذاناً ببدء عصر القوّة الأحاديّة الأميركية التي ستحكم العالم ثلاثين عاماً، تقريباً، وحدَها.
حينها لم يكن سهلاً أن يهضم سياسيّو الشرق الأوسط معنى انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كانت تتّكىء عليه أنظمة وتعوّل عليه شعوب، في مواجهة العملاق الأميركي.
ولم يكن واضحاً كيف أنّ خريطة القوى السياسية في بلدان الشرق الأوسط ستخضع لتغييرات كبيرة، وسترتفع بورصة أنظمة، وتنخفض أخرى، وستمشي غيرها في طريق النهاية، قبل ضربها وصولاً إلى إسقاطها.
ظلّ الغموض يغلي في الأنظمة الموروثة من زمن “الحرب الباردة”، إلى أن جاء 11 أيلول ليجرح “البطل الأميركي” و”يعلّم”، بسكّين إسلاميّ، على وجهه، في عاصمة الدنيا، نيويورك، بإسقاط أعلى برجين من أبراج مجدها الاقتصادي، وليعلن تهديد جبروتها الأمني والاستخباري من الداخل، للمرّة الأولى في تاريخها.
سريعاً ردّت أميركا الجريحة، بقيادة جورج بوش الابن، بإعلان تحالف دولي من خارج شرعيّة مجلس الأمن، يضمّ 40 دولةً، فيها كلّ دول حلف “الناتو” (شمال الأطلسي)، وعلى رأسها بريطانيا بقيادة طوني بلير. ولم تصمد كابول، فسقطت في العام نفسه تحت ضربات التحالف، واختبأ الطالبانيّون في الجبال بانتظار هدوء الغضب الأميركي. ثمّ سقطت بغداد في 2003 على طريق الغضب نفسه، بعناوين “نشر الديموقراطية”. وتبيّن سريعاً أنّ الإعلان الورديّ عن “نشر الديموقراطية” تحوّل إلى كابوس من توابيت الجنود الأميركيين المنقولين يوميّاً من أفغانستان والعراق إلى بلاد العمّ سام.
أوباما والقاهرة 2009 – البوعزيزي 2011
بعد سنوات، وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، حاملاً أفكار التصالح مع الإسلام، وانسحاب قوّات “العمّ سام” من المنطقة، لوقف عدّاد الموت الأميركي. ومن جامعة القاهرة، التي زارها في 2009، أطلق الرئيس ذو الأصول المسلمة خطابه الشهير، خاطباً ودّ المسلمين، قبل عامين من اندلاع “الربيع العربي”. وقال بالحرف: “أتيتُ إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استناداً إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهي بداية مبنيّة على أساس حقيقة أنّ أميركا والإسلام لا يعارضان بعضهما البعض، ولا داعي أبداً إلى التنافس فيما بينهما، بل إنّ لهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها، ألا وهي مبادئ العدالة والتقدّم والتسامح وكرامة كلّ إنسان”. وتابع: “أميركا ليست ولن تكون أبداً في حالة حرب مع الإسلام”.
كما لو أنّه ردّ، من العاصمة المصرية، على سلفه جورج بوش الابن، الذي افتتح زمن الغزوات الأميركية في منطقتنا بالحديث عن “حرب صليبية” في 2001، وخاطبنا بالقول: “إمّا معنا وإمّا ضدّنا”.
عامان بعد خطاب أوباما “الإسلامي”، اشتعل العالم العربي. كان عام 2011 عام سقوط “النظام العربي” الذي عرفناه لأربعين عاماً تقريباً. من تونس التي أحرق محمد البوعزيزي نظام رئيسها زين العابدين بن علي بجسده، إلى مشهد قتل رئيس ليبيا معمّر القذافي في أحد مجاري الصرف الصحّي، ثمّ عادت الكرة إلى مصر، مع “ثورة 25 يناير”، التي أدّت إلى استقالة الرئيس محمد حسني مبارك وسجنه… وصولاً إلى انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، من دون أن يسقط، وبعدها بدء حراك مذهبي في اليمن انتهى بأن احتلّ الحوثيون، مدعومين من إيران، العاصمة صنعاء في 2014، وقتلوا الرئيس علي عبد الله صالح في 2017.
سوّق كثيرون لفكرة أنّه كان “ربيع العرب”، وأنّه سيُنتج قوى ديموقراطية، حديثة، حداثةً غربية، تعلن انتساب المنطقة إلى العالم الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها أوروبا، بعنوانَيْ “الحرّيّات” و”الديموقراطية”. وهو الحلف نفسه الذي احتلّ أفغانستان والعراق، وساهمت دول منه في إسقاط القذافي.
لكن جاء “الإخوان المسلمون” في أوّل انتخابات بمصر وتونس. وغرقت ليبيا في صراعات عشائرية، ودخلتها قوى عربية وغربية طامعة في النفط الليبي، وتحوّلت سوريا إلى مستنقع جاءته جيوش أميركا وفرنسا وروسيا وإيران وميليشيات إيرانية من كلّ حدب وصوب… وراح الحوثيون يهاجمون السعودية التي قرّرت الردّ بـ”عاصفة الحزم” في 2015.
وإذ تنفّست تونس الصعداء مع الرئيس قيس سعيّد، بعد 10 سنوات من الاضطرابات، في 2019، وقبلها مصر مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في 2014، لا تزال ليبيا وسوريا تنازعان، من دون أفق ديموقراطي، ولا تزال اليمن تئنّ تحت واحدة من أكبر الأزمات المعيشية في زماننا بسبب السيطرة الحوثية – الإيرانية، المعادية للمجتمعيْن العربي والدولي.
كان لبنان يقع أكثر فأكثر تحت القبضة الإيرانية، وكان العرب ينفضّون من حوله، ويتركونه ليغرق، منذ دخول حزب الله مقاتلاً في سوريا دفاعاً عن نظام بشار الأسد في 2011، ومنذ تمدّد تدخّلاته إلى العراق واليمن
لبنان في الكمّاشة الإيرانيّة
في هذه الأثناء كان لبنان يقع أكثر فأكثر تحت القبضة الإيرانية، وكان العرب ينفضّون من حوله، ويتركونه ليغرق، منذ دخول حزب الله مقاتلاً في سوريا دفاعاً عن نظام بشار الأسد في 2011، ومنذ تمدّد تدخّلاته إلى العراق واليمن، و”حيث يجب أن نكون، سنكون”، بحسب الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
في 2015 بدأ الرئيس الأميركي باراك أوباما يسوِّق لفكرة جديدة. وقّع مع إيران اتفاقاً نووياً، سمح لها بالحصول على عشرات مليارات الدولارات، التي استعملتها في توسيع نطاق سيطرتها وتدخّلاتها في الدول العربية، ومنها لبنان. وفي العام نفسه، قال مسؤولون إيرانيون إنّ بلادهم “تسيطر على 4 عواصم عربية”، هي بغداد وصنعاء ودمشق… وبيروت.
مدّ أوباما يده لقوى الإسلام السنّيّ من القاهرة في 2009. أعلن في 2011 أنّه سيسحب قوّاته الأميركية من العراق نهاية العام. وأنجز اتفاقاً تاريخياً مع نظام إيران الإسلامي الشيعي في 2015. وفي 2018 فاز حزب الله بأكثرية نيابية، للمرّة الأولى، وفي انتخابات باركها الغرب، بعد عامين من انتخاب ميشال عون، مرشّح حزب الله، رئيساً للجمهورية. وقال نائب حزب الله نوّاف الموسوي، تحت قبّة البرلمان، إنّ عون “جاء ببندقية المقاومة”. وكان ذلك أكثر التعابير صدقاً في التعبير عن آليّة صناعة المجال السياسي العام في لبنان.
إقرأ أيضاً: الذي يعنينا في الحدث الأفغانيّ
وبالطبع كان ذلك إحدى نتائج المسار الأوباميّ، الذي كان بدوره إيذاناً ببدء الانسحاب الأميركي من منطقتنا. ثمّ جاءنا دونالد ترامب رئيساً للولايات المتّحدة في نهاية 2016، ليؤخّر الخطّة 4 سنوات. وقد طلب من حلفاء بلاده أن “يدفعوا” المال بدل حمايتهم العسكرية والأمنيّة، عرباً وأوروبيّين وغيرهم. حتّى إنّه طلب المال من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وليس فقط من الدول العربية. وما إن رحل وجاء جو بايدن في 2020، حتى استكمل خطّة سلفه وقدوته، أوباما. وفوراً خرج من كابول، بعد 20 عاماً تماماً من بدء المغامرة الغربية.
في الحلقة الثانية غداً: انهيار جدران برلين – كابول – بيروت: المجد لكواتم الصوت