هل نحن أمام طالبان جديدة؟ وحده الوقت سيسعف في تقديم إجابة شافية حول الجديد أو القديم في فكر حركة قامت على تقديس النَسخ الأكثر محافظةً من الإسلام كمنظومة حكم، وليس كدين وحسب. بيد أنّنا بالتأكيد أمام جديد ما يخصّ وعي طالبان لصورتها، وتدلّ عليه جهود العلاقات العامّة واستراتيجيات التواصل السياسي والإعلامي التي تعتمدها الحركة منذ دخولها كابول.
حين سقطت كابول عام 1996 بيد طالبان، كان قد مضى على لجوء الرئيس الأفغاني الموالي للسوفيات محمد نجيب الله إلى مقرّ الأمم المتحدة في العاصمة نحو أربع سنوات، بعدما كان قد فشل في مغادرة البلاد عام 1992. مع سقوط المدينة وانهيار تحالف الشمال بقيادة القائد الأفغاني الطاجيكي الشهير أحمد شاه مسعود، دخلت طالبان مقرّ الأمم المتحدة، واعتقلت نجيب الله، وعذّبته وأعدمته وعلّقت جثّته على أحد أعمدة إشارات المرور في المدينة.
الأوهام بنجاح طالبان، فكارثة أخرى لأنّها ستعيد نفخ الروح في مشروع لم يهدأ، وإن ضعفت قواه التنظيمية أو انتكست عواصم رعايته، ولا سيّما تركيا التي تسعى إلى التراجع نحو قواعد التجربة الإردوغانية في بداياتها، أي تصغير المشاكل وتكبير الاستثمارات
أمّا حين دخلت طالبان كابول قبل أيام، تولّت قناة “الجزيرة” القطرية المملوكة للإمارة الصغيرة التي رعت المفاوضات بين الحركة وواشنطن، تظهير الجديد في صورتها. شاهد العالم إجراءات مرتجلة، ولكن سلمية، للتسلّم والتسليم بين سكرتير الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني، وأحد قادة طالبان، جعلت الإعلام الصيني يعلّق ساخراً أنّ انتقال السلطة في كابول كان أكثر سلمية بكثير ممّا حصل في واشنطن حين اجتاح أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب مبنى “الكابيتول هيل”. وترافق ذلك مع إعلان الحركة عفواً عامّاً عن كلّ موظّفي الدولة المدنيّين والعسكريين، وحماية ممتلكاتهم وأرواحهم. أين “حكمة طالبان” من القرار الغبي للحاكم المدنيّ للعراق بول بريمر بحلّ الجيش العراقي بحجّة أنّه بعثيّ، في بلاد كان من غير الممكن سقاية شجرة فيها قبل التأكّد من بعثيّة هذه الشجرة!!
أمّا علم الدولة الأفغانية، التي جاءت طالبان لإعلان نهايتها، فأُنزِل داخل القصر ولُفَّ بمنتهى الاحترام. في الخارج، حرصت كاميرا “الجزيرة” على أن تنطق خلفيّة مراسليها بحياة عادية في شوارع كابول. وتولّت القناة بثّ أشرطة صوَّرها مقاتلو الحركة من داخل سيّاراتهم وهم يقومون بدوريّات ضبط أمن، مرّت إحداها على مجلس عزاء عاشورائي، فشرع مقاتل طالبان في طمأنة الأفغان الشيعة إلى الحفاظ على حرياتهم الدينية وحرية ممارسة شعائرهم. هل هذه طالبان نفسها التي فجّرت التمثالين البوذيّين الأثريّين الضخمين المنحوتين على منحدرات وادي باميان في منطقة هزارستان في وسط أفغانستان؟
وحيال المرأة، الملفّ الأكثر التصاقاً بسيرة الرعب التي رافقت طالبان، حرصت الحركة على بثّ رسائل ملغومة تتعلّق بحقوق العمل والتعليم، وأرفقتها بعبارة “وفق أحكام الشريعة الإسلامية”…
ثمّة مَن قال لطالبان إنّ بين الدخول الأوّل لكابول عام 1996، والثاني عام 2021، تغيَّر العالم، وإنّ الإنترنت التي “حرّمتها” طالبان عام 1996 مع التلفزيون والموسيقى وغيرهما الكثير، هي اليوم الجهاز العصبي لدماغ الكون، وإنّ 70% من الأفغان يحملون هواتف نقّالة موصولة بالإنترنت، تبثّ وتستقبل كلّ شيء طوال الوقت. وثمّة من وفّر لطالبان عُدّة شغل حقيقية أساسها حملة علاقات عامّة، وصناعة صورة تولّاها بخبرة صلبة وضمن رؤية سياسية محدّدة، كانت أولى طلائعها قناة الجزيرة، التي امتلكت الحدث الأفغاني إعلاميّاً وسياسيّاً بدون منازع تقريباً، مسنودةً بموقف أميركي خاصّ، وغربيّ عامّ، وصيني وروسي وإيراني، تجاوز التسليم بواقع الأمر إلى شبهة التشجيع على تبنّيه والقبول به، ولو وفق سلسلة طويلة من الشروط.
لم يمرّ في تاريخ إعادة تأهيل الحركات الإرهابية أن توافر لحركة ما هو متوافر الآن لطالبان، كمّاً ونوعاً وسرعة. حتى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي جسم يخوض معركة حقّ تقرير مصير وطني متّفقاً على مضمونها دوليّاً، ذاقت كل درجات المرّ وأنواعه قبل أن تنتقل من ضفّة الإرهاب إلى ضفّة الممثّل الشرعي للعنوان الذي تدافع عنه.
فهل نحن أمام إعادة إحياء لمشروع الاسلام السياسي الذي راهنت عليه إدارة باراك أوباما منذ خطاب القاهرة الشهير عام 2009، وهُزِم في مصر والسودان، وأخيراً في تونس، وطُوِّع في ليبيا والمغرب والأردن؟
لست ممّن يفسّرون أحداث العالم وفق مؤامرات مضبوطة الحياكة تُعدّ في غرف سوداء وتُنفّذ بانضباط رفيع. بيد أنّ بعض ما نحن بإزائه يوحي أنّنا أمام مسرح معدّ بعناية، يستغلّ عملية تجسير بين مصالح متعدّدة ومعقّدة، من الدوحة إلى واشنطن، مروراً بتركيا والصين وروسيا وإيران. سرير واحد كبير بأحلام متعدّدة.
أفغانستان بعيدة، وقدرتها على التحوّل إلى نموذج مُلهِم ليست باليسر الذي يمكن أن يتخيّله أحد، حتى لو افترضنا أنّ ثمّة مَن يسعى إلى تحويلها إلى نموذج إسلامي.
فشل طالبان هو الأرجح، وسيكون كارثة على الأفغان تكرِّر فصول الجحيم الممتدّ من 1996 حتى 2001، وسقوط الإمارة. يقول لي رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق شوكت عزيز إنّ فنّ إدارة الدولة مسألة معقّدة، ويتطلّب مهارات تتجاوز القوّة المسلّحة والهيبة. “البندقية لا تأتي بالمياه والكهرباء، والرصاص لا يكتب ميزانية، والهيبة لا تجذب الاستثمارات الأجنبية والخبرات المطلوبة للنهوض الاقتصادي”.. طالبان لا تملك شيئاً من الكفاءة السياسية لإدارة دولة.
يقول لي رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق شوكت عزيز إنّ فنّ إدارة الدولة مسألة معقّدة، ويتطلّب مهارات تتجاوز القوّة المسلّحة والهيبة. “البندقية لا تأتي بالمياه والكهرباء، والرصاص لا يكتب ميزانية، والهيبة لا تجذب الاستثمارات الأجنبية والخبرات المطلوبة للنهوض الاقتصادي”
أمّا الأوهام بنجاح طالبان، فكارثة أخرى لأنّها ستعيد نفخ الروح في مشروع لم يهدأ، وإن ضعفت قواه التنظيمية أو انتكست عواصم رعايته، ولا سيّما تركيا التي تسعى إلى التراجع نحو قواعد التجربة الإردوغانية في بداياتها، أي تصغير المشاكل وتكبير الاستثمارات.
في المنطقة العربية تعلّمت أنّ الجزء الأكبر من الاستثمار في الإسلام السياسي هو استثمار في مخالب مسمومة لتصفية حسابات لا علاقة لها لا بالإسلام ولا بالسياسة، وهذا ما لا دليل عندي على تراجعه.
إقرأ أيضاً: الأمريكان.. لا أوفياء وفعلاً أغبياء
الحدث الأفغاني، مقروءاً في سياق الصراعات العربية العربية، منصّة لتجديد النزاعات، التي اُستُعمل فيها الإسلام السياسي لتهديد سلامة الدول الوطنية، في اللحظة التي كانت تونس تعلن فيها أنّ “الإسلام ليس هو الحلّ“.