لكلّ زمنٍ صورةٌ وعنوان. وفي كلّ صورة وعنوان، كان حزب الله يتقدّم على طريق إحكام قبضته الأمنيّة وسيطرته السياسية على البلاد.
1- في 2005: كان العنوان “8 و14”. وكانت الصورة “مليونيّة”. وعشنا الانقسام العامودي لسنوات طويلة. وظلّ حزب الله أساسياً في المعادلة، لكن بلا “ثلث معطّل” في الحكومات.
2- في 2008: كان العنوان “7 أيّار”، وكانت الصورة جحافل مسلّحين بلباس مدنيّ. وكان متن النصّ هو إحكام حزب الله سيطرته العسكرية على الجغرافيا اللبنانية كلّها. وفي السياسة قبض على “ثلث معطّل” في “اتفاق الدوحة”، أي على “فيتو” في السلطة التنفيذية لم يتيسّر لحزب واحد منذ تأسيس لبنان.
3- في 2011: كان العنوان هو “القمصان السود”، وكانت الصورة ضبابيّة. لكنّ قلب الموضوع هو أنّ “السلاح” بات يعيّن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والحكومة. يومها قفز نجيب ميقاتي من لوائح “المستقبل” التي أوصلته إلى مجلس النواب، وشكّل حكومته الثانية، “حكومة القمصان السود” التي حكمت 3 سنوات.
فشل حزب الله خلال العامين الأخيرين في إيجاد مبرّرات لسردية احتفاظه بسلاحه دوناً عن كلّ اللبنانيين. “التنتيع” في مفاوضات لبنان مع إسرائيل حول حصّته من النفط في بحره الجنوبي، لم يعطِ اللبنانيين انطباعاً إيجابياً بأنّ حزب الله حريص على “ثروة وطنية”
4- في 2013: بات العنوان هو “محاربة داعش”، من القصير إلى حمص وحلب. وقال الأمين العام لحزب الله فكرته الشهيرة: “نحاربكم في سوريا”. وأعلن تحييد لبنان. وحتّى خصوم الحزب، راودتهم فكرة “الحماية” التي أمّنها الحزب، مانعاً الحريق السوري من الامتداد إلى الجسد اللبناني الهشّ. وولدت حكومة تمام سلام في 2014 كـ”ربط نزاع”، كما سمّاه الرئيس سعد الحريري.
5- في 2016: دخلنا في “زمن ميشال عون وجبران باسيل”. انتخب الحريري عون رئيساً، وباسيل “رئيس ظلّ”، وبات جبران حاكماً بأمره، كظلٍّ لعمّه عون، وكواجهة لحزب الله، الذي أحكم قبضته على الرئاسات الثلاث، وبينها رئاسة الحريري. وبات للحزب أكثر من الثلث، وربما أكثر من النصف، في الحكومة.
6- في 2019: أُعلن القضاء على آخر جيوب “داعش” بسوريا في آذار، وفي تشرين الثاني ولدت “ثورة 17 تشرين” في لبنان. وكان الحزب متردّداً بين مهادنتها، وبين ضربها، مرّة يتفاداها ومرّات يهاجمها على لسان نصر الله. لكنّنا دخلنا “زمن الثورة” على عهد عون وعلى الطبقة السياسية التي يمسك بها حزب الله ويحكم من خلالها.
7- في 2020: بات العنوان اللبناني هو “الجوع”، والصورة هي فيديوات الصارخين على شاشات التلفزة: “نريد الدواء”، “نريد الماء”، نريد الكهرباء”. وكان صلب الموضوع هو الانهيار.
8- في 2021: صار العنوان: هل دخلنا في زمن “شويّا”؟
زمن شويّا
فشل حزب الله خلال العامين الأخيرين في إيجاد مبرّرات لسردية احتفاظه بسلاحه دوناً عن كلّ اللبنانيين. “التنتيع” في مفاوضات لبنان مع إسرائيل حول حصّته من النفط في بحره الجنوبي، لم يعطِ اللبنانيين انطباعاً إيجابياً بأنّ حزب الله حريص على “ثروة وطنية”. هو الذي يمسك بقرار المفاوضات، عبر الرئيس ميشال عون بعد إقصاء الرئيس نبيه برّي و”حكمته”. ويقول العارفون إنّه قد يكون “تواطؤاً” غير معلن بين لبنان وبين الولايات المتحدة الأميركية. فالأخيرة غير موافقة على “الدور الروسي” في نفط لبنان، من التنقيب إلى تأجير خزانات مصفاة طرابلس للروس… وتلك قصّة أخرى.
لطالما كان الدروز “حماة الثغور” منذ مئات السنوات… قُساةٌ يشبهون الجبال التي استوطنوها، وتشبههم
الأهمّ أنّ اللبنانيين لم يقتنعوا بأنّ الحزب يدافع عن “ثرواتهم النفطية” في البحر. أصلاً لبنان الذي وقع في الجوع كان يجب أن يقبل بأيّ حصّة أمس قبل اليوم، لتخرجه من أزمته المالية. وترف “التنتيع” في المفاوضات ضيّع على الحزب فرصة إدخالنا في “زمن النفط” بحمايته. بدا هو المانع أمام احتمال حصولنا، ولو ليس مباشرةً، على مليارات الدولارات النفطية، التي كانت ستغنينا عن العَوَز والجوع اللذيْن نغرق فيهما اليوم.
مهما فعل حزب الله، فهو يعرف في طبقاته العليا، حيث مراكز الدراسات وغرف التحكّم الاستراتيجي، أنّ زمن المبرّرات المفتوحة للاحتفاظ بالسلاح قد ولّى. أو على الأقلّ أنّ الحزب دخل في مرحلة انعدام وزن من حيث القدرة على اختراع “أعذار” ليحمل مئات الآلاف من شبّانه السلاح، وقرار الحرب والسلم، دوناً عن غيرهم من اللبنانيين.
1- بعد خلدة في آخر تموز الماضي، حيث سقط مسؤول و4 عناصر لحزب الله برصاص غاضبين من السنّة.
2- وبعد صور التي وقف شبّانها الشيعة، من أبناء حركة “أمل”، بوجه صهاريج حزب الله وأفرغوها في مولّدات المدينة الكهربائية.
3- وبعد تحرّك المرفأ ذي الصبغة المسيحية، حيث تمّ توجيه أصابع الاتهام إلى الحزب بتورّطه في المسؤولية عن تفجير المرفأ في 4 آب 2020.
4- وبعد شويّا، حيث اعترض “الأهالي” راجمة الصواريخ وهي عائدة من قصف مزارع شبعا المحتلّة…
بعد كلّ هذا سيتعرّض حزب الله، في مناطق متفرّقة، إلى ما لم يكن يتوقّعه.
بداية الأسبوع كان الموعد في بياقوت، بجبل لبنان، حيث تحوّل خلاف فرديّ إلى خلاف مسيحي – شيعي، في تلك القرية المختلطة. وسريعاً تكاثر الكتائبيون إلى جانب القواتيين في مواجهة الحزب. والآتي سيكون مشابهاً في مناطق عديدة.
إنّه زمن شويّا. ولهذا الزمن الكثير من الخصائص أبرزها:
1- سقوط المعادلة الذهبية: في شويّا لم يعترض الأهالي على راجمة صواريخ فقط. لم يكن محرّكهم هو الخوف من ردّ إسرائيل بقصف بلدتهم. بل هم اعترضوا على معادلة سياسية لطالما تحكّمت بمصير اللبنانيين، وهي معادلة “جيش وشعب ومقاومة”. معادلة كرّستها البيانات الوزارية في حكومات العقدين الأخيرين. وكان نصر الله متصالحاً مع نفسه حين دعا في خطابه الأخير إلى “محاكمة” الذين اعترضوا الراجمة، وذلك “أمام القضاء” اللبناني. وهو محقّ قانونياً. فورقة البيان الوزاري تحمي هؤلاء في دفاعهم بوجه إسرائيل. لكنّه لم ينتبه إلى أنّ الأوراق في لبنان لا تصنع الواقع، بل تخضع له. خصوصاً أنّ القصف بدأ من الجانب اللبناني، ولو كان اسمه الحركي “المنظّمات الفلسطينية”.
قد يكون زمن شويّا أسهل من الزمن الآتي. لكنّنا نأمل أن يكون “ذاكرة للمستقبل”، ودافعاً إلى التكاتف والالتفاف حول “الدولة” ومحاولة بنائها
2- “السلاح والحصار”: في شويّا لن ننسى وجه المقاتل الشاب في حزب الله، وهو يستغرب محاصرته من قبل “الشعب”، والاعتداء عليه وتسليمه إلى الجيش باعتباره “مجرماً” وليس “مقاوماً”.
على قيادته أن تشرح له ما الذي تغيّر في لبنان والعالم في السنوات الأخيرة. فيما هو يتجوّل حاملاً الصواريخ، من قرية إلى قرية، على قيادته أن تشرح له أنّ هذا السلاح ليس “مُباركاً”. وعلى قيادته أن تشرح له أنّ جزءاً كبيراً من اللبنانيين بات يعتبر هذا السلاح سبباً في جوعه. وبالتالي فإنّ أهالي شويّا، ومعهم ملايين اللبنانيين، بدأوا يدركون الرابط بين السلاح وبين الحصار الذي جوّعهم، مصرفياً واقتصادياً وعربياً وغربياً.
3- “السلاح أداة تجويع”: يعرف الغاضبون في شويّا، والمتضامنون معهم على امتداد الخارطة اللبنانية، أنّ السلاح الذي اعترضوه لا يقصف من قراهم فقط، ويعرّضهم للخطر، وليس فقط سبباً في “الغضب العربي” و”الانفضاض الدولي” عن مساعدة لبنان، بل هو شريك أساسي في قطع الكهرباء عنهم، من خلال رعايته التهريب اليومي للمحروقات إلى سوريا. وآخر الأرقام المخيفة أنّ لبنان دفع أكثر من 703 ملايين دولار “فريش” ثمن محروقات في تموز الماضي. وكان اللبنانيون يعانون من غياب الكهرباء، وانقطاع البنزين. وهناك رابط قويّ ومحكم في رؤوس أهالي شويّا، واللبنانيين، بين الراجمة، وبين بيوتهم المطفأة، وسياراتهم المركونة بلا بنزين، ومولّداتهم الفارغة من المازوت.
قَدَرُ الدروز
لطالما كان الدروز “حماة الثغور” منذ مئات السنوات… قُساةٌ يشبهون الجبال التي استوطنوها، وتشبههم. ومتمرّدون بالفطرة. واجهوا العثمانيين قبل 200 و300 عام، وواجهوا الفرنسيين قبل 100 عام، وواجهوا نظام حافظ الأسد السوري ودفعوا دم كمال جنبلاط قبل 44 عاماً، ثم واجهوا نظام ابنه بشّار في 2005، وساهموا في طرد قواته من لبنان، ووقفوا ضدّه مع الثورة السورية، قبل أن يلتزم دروز سوريا الحياد مع انفضاض المجتمع الدولي عن “الثورة”.
وفي 7 أيّار 2008، لولا “صمود الدروز” بوجه الاجتياح الحزب اللهي لبيروت والجبل، لتغيّر المشهد كليّاً. العنف الذي عمّده الدروز بالدم، جنبلاطيين وأرسلانيين، بوجه تقدّم قوات حزب الله في جبلهم، خفّف، بشكل أو بآخر، عن بيروت، وفتح باب الحوار الذي أوقف الزحف الشيعي على الجبل. هذا الصمود دفع قيادة حزب الله إلى مراجعة خططها العسكرية، والذهاب نحو “اتفاق الدوحة” في قطر. والعارفون يعرفون أنّ مرجعية جبلية كبيرة أبلغت العرب في 11 أيّار 2008: “سنقتل 100 منهم، ثمّ يبدأ الحديث”.
ثمّ واجهوا أخيراً “العهد القوي” في لبنان، فأجبروا جبران باسيل على “فرملة” اندفاعته صوب المناطق الخارجة عن قدرته، في “موقعة قبرشمون”، وبالدم. وها هم اليوم يتبرّعون في شويّا ليفتتحوا زمن الخروج على “حكم السلاح”، بجرأة لن نجد مثيلاً لها في أيّ بيئة أو مذهب أو منطقة في لبنان.
زمن شويّا
إنّه زمن شويّا الذي يريده اللبنانيون. ولا نعرف إذا كانت الصورة سترسو على “بائع التين”، ذلك الشيخ المبتسم حكمةً، والمتواضع في إعلانه أنّه سيوزّع تينه على الفقراء، بعدما طرده مناصرون لحزب الله من رصيف صيدا، حيث كان يبيع محصوله من التين. وربّما ترسو الصورة على وجه المقاتل المندهش وهو يتلقّى الضرب من الدروز الغاضبين لمرور راجمته في بلدتهم.
إقرأ أيضاً: راجمة صواريخ شويّا” هل عطّلت معادلة “جيش وشعب ومقاومة”؟
لكنّ الأكيد أنّ هذا الزمن هو زمن انفضاض اللبنانيين عن السلاح، والبدء في مواجهته. وعلى قيادة الحزب أن تعرف أنّها باتت في عين العاصفة. وهذه دعوة صادقة إلى المراجعة. فكما تدحرجنا من 17 تشرين إلى 4 آب إلى شويّا، قد يكون الآتي أصعب. وهذه البيئة التي استسهلت التحكّم باللبنانيين، مدعوّة إلى مراجعة عميقة.
قد يكون زمن شويّا أسهل من الزمن الآتي. لكنّنا نأمل أن يكون “ذاكرة للمستقبل”، ودافعاً إلى التكاتف والالتفاف حول “الدولة” ومحاولة بنائها. نريد لشويّا ألا تكون عنوان “حرب أهلية” مقبلة، بل عنوان وعد وأمل وسياق مطلوب لنصل إلى “كلمةٍ سواء”، بين الراجمة، وبين بائع التين.