منذ نشأته قبل نحو أربعة عقود، لم يواجه “حزب الله” تجربة مماثلة لتلك التي واجهها في السادس من آب. يكفي هنا مشاهدة شريط الفيديو الذي غطّى اللحظات التي قبض فيها أهالي بلدة شويّا على السيارة التي حملت راجمة الصواريخ مع عناصر “حزب الله” الذين كانوا على متنها. هذا الشريط، الذي انتشر في كل أنحاء العالم تقريباً، كشف عن المستور في العلاقات الملتبسة بين ما يُطلَق عليه عبارة “البيئة الحاضنة”، وبين الاسم الذي يجري فرضه على واقع لا يشبهه هو “المقاومة”.
يستطيع اليوم كل الذين عاشوا تجربة المقاومة الفلسطينية منذ بداية سبعينيات القرن الماضي إلى حين جلاء فصائلها تحت وطأة الحصار الإسرائيلي لأوّل عاصمة عربية صيف عام 1982، أن يقارنوا بين ذلك الزمن وبين هذا الزمن. الشبه الأبرز بين الزمنيْن هو كفر ناس البيئتيْن الحاضنتيْن بهما. كاتب هذه السطور شاهد بأمّ العين كيف خرج بعض سكان حيّ اللجا ببيروت، بعد جلاء المقاومة الفلسطينية ودخول الدبابات الإسرائيلية، إلى شارع مار الياس المجاور للحيّ ينثرون الأرز. لا داعي اليوم لنكء الجروح وتسمية طائفة الذين نثروا الأرز. وكأنّ المشهد بدأ يتكرّر اليوم بعد مرور 39 عاماً على المشهد السابق. لنستمع إلى ما رافق شريط حادث شويّا من أصوات:
وسط هذا الاشتباك بدا الموقف الرسمي مثيراً للسخرية في تجاهله لسلوك “حزب الله”. وقد حالف الرئيس ميشال سليمان التوفيق عندما سأل: هل اختفى المجلس الأعلى للدفاع أم فقد نصابه أم ليس الموضوع من صلاحيّته؟
“كرّوها (إدفعوا السيارة)…عندنا ناس تدافع عن حزب الله أكثر منه. تدافع عن الحزب وأكثر من ولاد طائفتها. نحن في شويّا فوق حاصبيا. خللي الرأي العام يشوف حزب الله عم يضرب من قرب البيوت كي تضربنا (إسرائيل) في ساحة شويّا في معقل الدروز. خللي هال… يشوفوا”. وفي الصورة المأخوذة لسيارة الحزب يمكن تعداد الصواريخ التي أُطلِقت من الراجمة بتعداد الفوهات الخالية فيها، ويبلغ عددها 21.
ما كشفه الشريط وأبانته الصور أكثر إفصاحاً من البيان الذي أصدرته “المقاومة الإسلامية”، وتحدّث عن “قصف أراض مفتوحة في مواقع الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا بعشرات الصواريخ من عيار 122 ملم”. كانت معطيات الصورة أدقّ، فقد جرى إطلاق 21 صاروخاً.
في زحمة الأنباء التي رافقت الحادث التبس الأمر على أحد المعلّقين في إحدى الفضائيات، فقال إنّ الأهالي الذين أوقفوا سيارة الحزب هم في بلدة “جويا”. والأخيرة بلدة على بعد عشرات الكيلومترات، وقريبة من الساحل الجنوبي. وفق التنوع الطائفي والمذهبي الذي يطبع كل أنحاء لبنان، تنتمي أكثرية سكان جويا إلى الطائفة الشيعية، فيما تنتمي غالبية سكان شويّا إلى طائفة الموحّدين الدروز المؤيدين للحزب القومي السوري.
ربّ سائل: هل كان “حزب الله” ليقوم بتشغيل راجماته من قلب بلدة شيعية مأهولة كما فعل بالأمس في شويّا؟ وقائع عمل الحزب منذ نشأته تردّ على السؤال إيجاباً. تكفي استعادة ما جرى في نيسان 1996 في بلدة قانا، التي تبعد بضعة كيلومترات عن جويّا في جبل عامل، عندما نصب الحزب راجماته قرب قاعدة قوات “اليونيفيل” في البلدة، التي اكتظّت بمئات المواطنين الذين ظنّوا القاعدة ملاذاً آمناً في وقت كان الجنوب مسرحاً لعدوان إسرائيلي حمل عنوان “عناقيد الغضب”. انطلقت راجمات الحزب فعاد القصف الإسرائيلي إليها محوّلاً مئات الأبرياء إلى أشلاء.
هل يُجري “حزب الله” نقداً ذاتياً لأخطر تطوّر في علاقاته مع السكان في مسرح عملياته كما ظهر في شويّا؟ من جهتها، سارعت إسرائيل إلى القيام بهذا النقد في ما يتعلّق بها. فقد ذكر المراسل العسكري لموقع “معاريف”، طال ليف رام، أنّ الأجهزة الأمنيّة في الجيش الإسرائيلي، بعد القصف ليل الأربعاء – الخميس، تُقدِّر أنّ حزب الله لن يردّ. “حتى أثناء إطلاق الصواريخ، وفق ليف رام، لم تتوافر معلومات استخبارية لدى إسرائيل عن نيّة حزب الله إطلاق الصواريخ، ولم ترصد الأجهزة الأمنيّة الصواريخ في لحظة إطلاقها من مركبات الإطلاق”.
في المقابل، خرج إعلام الحزب بمجموعة من تحليلات ومواقف وضعت ما جرى في خانة الانتصارات، وأبرزت ما جرى في شويّا في زاوية “أسف” بلدية شويّا والمخاتير وفعّاليات البلدة “للحادث غير المقصود”. واعتبر هذا الإعلام أنّ “المقاومة ثبّتت قواعد الاشتباك، وأكّدت أن لا مجال لمراجعتها أو تعديلها مع العدو”.
سيكون من الصعب بعد اليوم الحديث عن معادلة “جيش وشعب ومقاومة” التي وضعت “حزب الله” فوق المساءلة الوطنية. في شويّا أسس المشايخ الدروز لإنهاء المعادلة
وسط هذا الاشتباك بدا الموقف الرسمي مثيراً للسخرية في تجاهله لسلوك “حزب الله”. وقد حالف الرئيس ميشال سليمان التوفيق عندما سأل: “هل اختفى المجلس الأعلى للدفاع أم فقد نصابه أم ليس الموضوع من صلاحيّته؟”.
كيف تبدو الصورة الشاملة للتطوّرات على الجبهة الجنوبية؟ تقول “نيويورك تايمز” في تغطيتها للحدث: “ازدادت حدّة التوتّر بين إسرائيل وحلفاء إيران بسبب التوقّعات بأن تردّ إسرائيل قريباً على هجوم الأسبوع الماضي على سفينة تجارية مرتبطة بإسرائيل في المحيط الهندي. وقد هاجم البلدان مراراً سفن كلّ منهما في البحر خلال العامين الماضييْن. وعلى وجه الخصوص، استهدفت إسرائيل السفن الإيرانية التي تحمل الوقود أو الأسلحة من إيران إلى حلفائها”. تضيف الصحيفة: “قال الكولونيل شيفلر المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي إنّ ادّعاء حزب الله مسؤوليّته يوم الجمعة يهدف، على الأرجح، إلى إظهار أنّ الحزب لا يزال يسيطر على المنطقة الحدودية في جنوب لبنان، وأنّ الضربات الجوية الإسرائيلية لن تمرّ من دون ردّ”.
وقال زفيكا حاييموفيتش، وهو جنرال إسرائيلي متقاعد، وقائد سابق للقوات الجوية، إنّ “حزب الله وإسرائيل يحاولان التحرّك في إطار الصيغة الثابتة في السنوات الأخيرة، ومن مصلحة إسرائيل إبقاء حدودها مع لبنان هادئة، وإبقاء لبنان خارج اللعبة”.
إقرأ أيضاً: صور – خلدة – المرفأ – شويّا: الحزبُ مُحاصراً؟
وخلصت الصحيفة إلى القول: “لكن بالنظر إلى ما وصفه بالتقدّم في برنامج حزب الله المدعوم من إيران لتطوير صواريخ دقيقة في لبنان، أضاف السيد حاييموفيتش: نحن قريبون من نقطة سيتعيّن فيها على إسرائيل العمل ضد “حزب الله” في لبنان، وأحداث الأيام القليلة الماضية جعلت هذه النقطة أقرب”.
ماذا يمكن الاستفادة من هذا التطوّر الأمنيّ لبنانياً؟ بالتأكيد، سيكون من الصعب بعد اليوم الحديث عن معادلة “جيش وشعب ومقاومة” التي وضعت “حزب الله” فوق المساءلة الوطنية. في شويّا أسّس المشايخ الدروز لإنهاء المعادلة.