خلال سنوات رئاسته للجمهورية تطوّر موقف الجنرال ميشال عون من القبول برئيس حكومة إذا كان يقبل أن يكون “باشكاتب” عنده، بل وعند جبران باسيل، إلى أن قرّر قبل عامٍ ونصف العام على وجه التقريب، أنّه لا يريد أيَّ رئيس للحكومة أيّاً كانت درجة خضوعه. وما أخفى الرجل نواياه ولا إرادته، بل هو انصرف إلى الافتخار أنّه استهلك حتى الآن ثلاثة مكلَّفين أو أربعة، وما عاد يعرف العدد بالضبط لأنه ملَّ من العدّ.
هو يريدنا أن نفهم، ونحن السنّة بالذات، أو رؤساؤنا السابقون، نأبى إدراك هذه العَدَمية، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ما حرّكت الرئيس القائد وقائع الانهيار الوطني على المستويات كافّة، وآلام اللبنانيين وبؤسهم وجوعهم.
ولا حرّكتْه دعواتُ واستغاثاتُ البطريرك بشارة الراعي ولا مطران بيروت الأرثوذكسي الياس عودة ولا مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، لتشكيل حكومة إنقاذٍ أو يهلك الشعب اللبناني.
إنّ الفادح والعظيم، وأكاد أقول الفاضح، هو موقف رؤساء الحكومة السابقين: كلّما رمى الرئيس الجنرال أو الجنرال الرئيس في وجوههم جثّة أحدهم منهكةً بدون لحمٍ ولا عظم، قدّموا إليه مرشّحاً جديداً للجرجرة والبهدلة والإنهاك
ولا استجاب لماكرون والدول الكبرى في العالم الذين قالوا إنّهم لن يساعدوا لبنان إلاّ إذا تشكّلت فيه حكومة، بل ومضى بعضهم قبل أيّام يهدِّد بفرض عقوباتٍ عليه هو بالذات إن لم يوافق على تشكيل حكومة.
ما عاد شيء من ذلك خافياً على أيٍّ من عقلاء لبنان والعرب والعالم. فمنطق الجنرال أفظع من منطق لويس الخامس عشر الذي كان يقول: “بعدي الطوفان”، أمّا منطقه هو: “بل معي الطوفان حتى الغرق الخانق”.
لقد أتى عون إلى الرئاسة بمهمّةٍ محدَّدةٍ هي إسقاط وثيقة الوفاق الوطني والدستور، والذهاب إلى تحالف الأقلّيات الذي أعلنه مع حزب السلاح من مار مخايل عام 2006، وما حاد عن ذلك قيد أُنملة على الرغم من الانهيار، وعلى الرغم من تفجير مرفأ بيروت.
فكيف قابل اللبنانيون، وفي طليعتهم السُنّة، باعتبار رئيس الحكومة منهم، هذا التدمير المصمِّم لوطنهم ودولتهم ونظامهم؟
أمّا الجمهور اللبناني العامّ فيستغيث ولا مُغيث، ويركض وراء لقمة العيش والكهرباء والمحروقات والدواء، ويشتم الدولة والرئيس يائساً من كل شيء.
وأمّا القوى والأحزاب المسيحية الثورية وغير الثورية فاعتبرت المطالب الشعبية والكنسية والدولية (ولهؤلاء جميعاً تواصُلٌ معها) بالحكومة كلاماً فارغاً وعبثاً لأنّ المنظومة كلّها فاسدة ولا فائدة إلاّ بانتخاباتٍ مبكِّرة وبدون حكومةٍ ولا إدارة، ولا دستور ولا عيش مشترك.
إنّ الفادح والعظيم، وأكاد أقول الفاضح، هو موقف رؤساء الحكومة السابقين: كلّما رمى الرئيس الجنرال أو الجنرال الرئيس في وجوههم جثّة أحدهم منهكةً بدون لحمٍ ولا عظم، قدّموا إليه مرشّحاً جديداً للجرجرة والبهدلة والإنهاك. وبين الجثّة والجثّة، والمُدَدُ تصل إلى أشهرٍ طويلة أحياناً، ينصرفون إلى تدبيج البيانات في مخالفات رئيس البلاد للدستور، وأضرار تصرّفاته على الوطن والدولة والسيادة والعيش المشترك، وانتهاكه لشرعيات لبنان الحاضرة والتاريخية. وهم يعرفون أكثر منّي أنّ اهتمام الرئيس بالدستور (مع مستشاره سليم جريصاتي) لا يفوقه إلاّ اهتمام الباسيل بالهوية المشرقية والاقتصاد الصيني والإيراني والأسدي، وبالطبع لا تنسوا “حقوق” المسيحيين، التي لا يعرف أحدٌ عنها شيئاً بالطبع غير جبران باسيل.
نحن السُنّة يهمّنا ما يهمّ اللبنانيين الآخرين، لكن علينا مسؤوليات مضاعفة لأننا بالإجماع نقول بوثيقة الوفاق الوطني وبالدستور والعيش المشترك، ولأنّ رئيس الحكومة، رئيس مجلس الوزراء منّا، وهو يشكّل الحكومة بحسب الدستور، ويكلّفه النواب، ويكون مسؤولاً أمامهم وليس أمام عون، سواء أكان جنرالاً أم رئيساً أم الأمرين معاً
يا جماعة، يكفينا بهدلة وجرجرة. فهؤلاء “القوم” لا يريدون هذا الدستور ولا هذا النظام، ولا يهمّهم عيش اللبنانيين ولا حليب أطفالهم ولا شكاوى الأمّهات الثكالى ولا أحلامهم في حياةٍ كريمةٍ وطبيعية.
وبالطبع نحن السُنّة يهمّنا ما يهمّ اللبنانيين الآخرين، لكن علينا بجانب مسؤوليّاتنا كمواطنين لبنانيين، مسؤوليات أخرى إضافية. علينا مسؤوليات مضاعفة لأنّنا بالإجماع نقول بوثيقة الوفاق الوطني وبالدستور والعيش المشترك، ولأنّ رئيس الحكومة، رئيس مجلس الوزراء منّا، وهو يشكّل الحكومة بحسب الدستور، ويكلّفه النواب، ويكون مسؤولاً أمامهم وليس أمام عون، سواء أكان جنرالاً أم رئيساً أم الأمرين معاً.
الذي يحصل لنا وعلينا كبير وخطير. فهؤلاء “القوم” يُنكرون علينا دورنا الوطني، وشراكتنا الوطنية، وحقّنا وواجبنا في الإسهام في الإنقاذ الوطني، من خلال رئاسة السلطة التنفيذية.
والاختلاف الكبير الذي يعاني منه لبنان يكاد يصل إلى الأُسس. وانظروا كيف تركّز الهجوم على البطريرك الراعي، لأنّه يريد تشكيل حكومة، والعودة إلى اتفاق الهدنة ومقتضيات القرار الدولي رقم 1701، ويطلب من الجيش عدم السماح بإطلاق الصواريخ من الجنوب. هو اختلال كبير أوصلنا إليه العهد العوني الذي خرج على وثيقة الوفاق الوطني، وأخضع الدولة لحزب السلاح.
ولذلك كلِّه، وقد بيَّنَ الصبح لذي عينين، أدعو الرئيس المكلَّف أن لا يدعهم يجرجرونه كما جرجروا زملاءه من قبل. وأقترح عليه، وللأسباب الوطنية السالفة الذكر، ما يلي:
– الاعتذار عن التشكيل إن لم يحصل بالطريقة الدستورية الصحيحة خلال عشرة أيامٍ لا أكثر.
– الدعوة إلى اجتماعٍ طارئٍ بدار الفتوى نعلن فيه أنّنا لن نرشّح أحداً بعد الآن لرئاسة الحكومة ما دام عون رئيساً.
– المُضيّ جميعاً إلى “عصيان سياسي” وطني من أجل عزل رئيس الجمهورية أو اعتزاله، ودعوة كل الأطراف الوطنية الحقيقية إلى المشاركة في هذه الحملة السياسية التي لا تتوقّف أمام الانتخابات ولا غيرها.
– مناداة العرب والمجتمع الدولي إلى إنفاذ القرارات الدولية، وإنقاذ لبنان من استعصاء الجنرال وانتصاره بسطوة السلاح غير الشرعي على الدولة والمواطنين.