قبل شهرٍ ونيّف كتبتُ في “أساس” داعياً رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري إلى الاعتذار لأسبابٍ دستوريةٍ ووطنيةٍ بحتة. لكن بعد ذلك مباشرةً هبّت موجةٌ متصاعدة من السخط على رئيس الجمهورية (وهو مستحقٌّ للسخط لعشرات الأسباب على أيّ حال) بلغ من تدنّي سقفها أنّها آلت إلى أن تتمترس من وراء حوائط وسدود الأسباب المذهبية.
ومن بيانات رؤساء الحكومة السابقين إلى اجتماع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الشهير بحضور سعد الحريري، قالوا، لا فُضَّت أفواههم: “لا اعتذار”، لأنّ في ذلك انتقاصاً من صلاحيّات رئيس الحكومة السنّي ومن نصّ الدستور، ويؤدي إلى “افتراس” الجنرال وصهره لنصاب ونصيب أهل السنّة في الوظائف العامة. حتى “الاستنصار” بموقف رئيس مجلس النواب ما أنقذ ذلك الرفض الانكساري من اشتباهات الارتداد والتردّي.
في “كلمة” الرئيس الحريري عند الاستقالة، وحديثه على إحدى القنوات، خفوتٌ، ومصيرٌ باتجاه الانحناء من جديد تحت السقف المنخفض لـ”الثنائيّة”، وفي الوقت نفسه الانضواء في تسنّن مستجدّ وبراغماتيّ
لقد قلنا وقتها متحسّرين في بيان “التجمّع الوطني اللبناني”، وفي “أساس”: ليتكم أيّها المتحسّرون على وظائف أهل السنّة وعلى تهميشهم في النظام اللبناني الخالد ذكرتم مواقف البطريرك بشارة الراعي والمجتمعين العربي والدولي من ضرورة إقامة حكومة هي السلطة التنفيذية في لبنان وفي كل بلدان المعمورة، وبخاصةٍ في ظروف الانهيار المشهود. وليتكم تذكّرتم إعلان المحكمة الدولية الخاصة عن خفوت صوتها الوشيك، وهو الركن الآخر من ركنَيْ الانهيار اللبناني: وجود عون وصهره في الرئاسة، وسيطرة حزب الله على مقاليد الأمور من قضايا الحرب والسلم إلى سَيَبان الحدود مع سورية الأسد بإشرافه واستفادته.
نعم لقد تذكّرنا وقتها الفُرَصَ المتكاثرة والضائعة بسبب سوء التصرّف السياسي، باعتبار أنّ سوء التقدير يؤدّي إلى سوء التدبير، وسوء التدبير يؤدّي إلى التواطؤ، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى. وذكّرْنا وقتها متحسِّرين أيضاً وأيضاً باستقالة سعد الحريري بعد ثورة 17 تشرين بداعي مطالب الثوار، كما خاطبهم يومها، ثمّ إذا به ينحاز ضدّهم. لقد بلغ من أسانا ويأسنا بعد بيان المجلس الشرعي أنْ ردّدْنا القول العربي السائد والقديم: لا تأسَوا على دمٍ ضيّعهُ أهله.
لقد بقي سقف سعد الحريري الدائم (وليس سقف أهل السنّة بالطبع)، حتى عندما رشّح نفسه من جديد قبل عام لرئاسة الحكومة، هُوَ هو: الثنائي الشيعي! وأنا (مثل غيري) أعرف هذا الموقف منه منذ عام 2015، بل والحقّ يُقال: منذ عام 2011. وعلى الدوام بحجّة “الاختلال الاستراتيجي” تارةً، وبحجّة مفاجأة “الأعدقاء” تارةً أُخرى. والتحالفات السياسية بعلّة أنّ حالتنا البائسة في لبنان لها مسوِّغات. لكنّ هناك فرقاً كبيراً بين التحالف التكتيكي والتنازلات الشديدة الهول، كما اتّسم به السلوك السياسي والإداري للرئيس الحريري. فعندما تسلك سلوكاً تابعاً في عشرات الحالات والوقائع، لا تستطيع الإقناع بموقفٍ صلبٍ في الظاهر تتّخذه لمناسبةٍ معيّنة وبعد فوات الأوان.
على سبيل المثال، عندما “تحالف” الرئيس الحريري مع الجنرال ميشال عون وصهره جبران باسيل عام 2016، وسُمِّي ذلك “تسوية”، انصرفنا للتعزّي بأنّ “إدارة” التسوية تكاد تضاهيها في الأهميّة. إنّما بعد عامٍ واحدٍ بدا ظاهراً للعيان لدى أهل السنّة، بل ولدى الأعدقاء، أنّ إدارة التسوية أسوأ من التسوية ذاتها، وليس مع الطفل المعجزة فقط، بل ومع الحزب المسلَّح أيضاً.
لننظر إلى ما عانته وتعانيه الشعوب العربية في سورية والعراق واليمن وليبيا، والسنّة هم الأشدّ معاناة بالقتل والتهجير: هل نجد فئةً سنّيّةً معتبرةً تقول بالتقسيم أو الطائفية أو المذهبية؟
الآن “يتعاير” الحريري مع سمير جعجع أيّهما هو المسؤول الأكبر عن مجيء الجنرال المتسلِّح بسلاح الحزب إلى الرئاسة. والواقع أنّ كلا الرجلين لم يقصّر في قِصَر النظر وفي القصور السياسي. إنّما الدكتور جعجع هذا هو مساره “المنطقي”، إذا صحَّ التعبير، من “حالات حتماً” إلى “ميثاق” معراب الذي لا ينفصم. فما هو عذر سعد الحريري؟
ولنعد إلى حيث بدأنا. بالنسبة إلى الدكتور جعجع هذه هي مقتضيات المارونية السياسية كما يفهمها (وقد أثبتت مواقف البطريرك الراعي والفاتيكان أنّ الاعتبارات المسيحية الوطنية هي الأَولى بالاعتبار). لكنّ الأمر مختلفٌ تماماً فيما بين الرئيس سعد الحريري وأهل السنّة، وبخاصّةٍ أنّه سبق له أن سمَّى نفسه: “بَيّ السنّة”.
في مقالاتي بـ”أساس” عن “خروج أهل السنّة من المعادلة الوطنية”، أثبتُّ بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ جمهور أهل السنّة، منذ احتلال بيروت من جانب الحزب المسلَّح عام 2008 إلى انتخابات عام 2018، إنّما جُرجِروا من الموقف الوطني الكبير الذي حكم مسارهم التاريخي، والذي شهد استشهاد ثلاثةٍ من رؤساء الحكومة والمفتي حسن خالد وعشرات الرجالات الوطنيين الآخرين، إلى التبعيّة للحزب المسلَّح وتجرُّع السُمّ و”جبران صديقي” (!). وسيقول أنصار “السلامة” بالاستسلام: “لكنّ التمرد لا يجلب شيئاً، بل فيه أضرارٌ كبرى سياسية وفيزيقية، وَلْننظر إلى البلدان العربية المجاورة”.
وأنا أذهب إلى أنّ السلامة السياسية والسلامة الفيزيقية بالذات تقتضيان العودة إلى المسار الوطني غير الطائفي والمذهبي، الذي يحفظ الذات والوطن والعيش المشترك والميثاق الوطني والدستور. ما بقيت فئةٌ من فئات المجتمع اللبناني (وليس من طوائفه) غير جمهور أهل السنّة تقول عن اقتناع بـ”الثوابت الوطنية”. وقد جرّب سعد الحريري نفسه هذا الثبات في انتخابات عام 2009، وحقّق بهذه الفئة الوطنية الشاسعة انتصاراً كبيراً، وبالطبع ليس لأهل السنّة كطائفة، بل للوطن والدولة والدستور.
الآن “يتعاير” الحريري مع سمير جعجع أيّهما هو المسؤول الأكبر عن مجيء الجنرال المتسلِّح بسلاح الحزب إلى الرئاسة. والواقع أنّ كلا الرجلين لم يقصّر في قِصَر النظر وفي القصور السياسي
نحن أهل السنّة، ليس في لبنان فقط، لا نحيا ولا نعزُّ بالشعارات الطائفية والمذهبية التي تشرذم الأوطان والمجتمعات. وكل الدول الوطنية ذات الرايات الوحدوية القطرية ( كما يقول البعثيون!) والقومية، كنّا ولا نزال جمهورها وحماة عيشها المشترك وتنوّعها. وقد “عزّتني” الذكرى والواقع (كما يقول اللبنانيون) عندما سمعتُ خطاب البطريرك الراعي في بكركي في 8/7/2021 عن المواطنة والحرية والديموقراطية والعيش المشترك والعروبة والسيادة. ولننظر إلى ما عانته وتعانيه الشعوب العربية في سورية والعراق واليمن وليبيا، والسنّة هم الأشدّ معاناة بالقتل والتهجير: هل نجد فئةً سنّيّةً معتبرةً تقول بالتقسيم أو الطائفية أو المذهبية؟
إنّ وجودنا الإنساني هو وجود وطني عامّ وشامل، وهو يستند إلى وعي صلبٍ بضرورات الوحدة الوطنية والعيش المشترك، فلا يجوز لقياداتنا ولا لمثقّفينا المصير إلى توجهاتٍ مذهبيّة، وليس لأنّ ذلك مرذولٌ أخلاقياً، بل ولأنّه يهدّد مصالحنا ودولتنا.. وأكاد أقول إنّه يهدّد ديننا، نحن أهل السنّة و”الجماعة”. الشعارات والممارسات الطائفية والمذهبية والفئوية يستطيعها عون وباسيل والحزب المسلّح، لكن لا نستطيعها ولا نؤمن بها نحن.
أُقرّر ذلك كلَّه لأصل إلى اعتذار الرئيس الحريري عن عدم تشكيل الحكومة بعد معاناة لقرابة التسعة أشهر. ولا أزال على أطروحتي قبل شهرٍ ونيّف: الإقدام على الاعتذار خطوة ممتازة، لكنْ لكي لا يتحوّل إلى انكسار كما حصل عدّة مرّات، أرى الاعتصام بعدّة مبادراتٍ وسياساتٍ وسلوكات.
في “كلمة” الرئيس الحريري عند الاستقالة، وحديثه على إحدى القنوات، خفوتٌ، ومصيرٌ باتجاه الانحناء من جديد تحت السقف المنخفض لـ”الثنائيّة”، وفي الوقت نفسه الانضواء في تسنّن مستجدّ وبراغماتيّ (يقول إنّه ما كان سنّيّاً كفايةً في السلطة!)، وهو ربّما يظنّ أنّ ذلك ملائم في الاستعداد للانتخابات.
إقرأ أيضاً: قضية أهل السُنّة (1/2): المسار الوطنيّ والبديل الوطنيّ
بعدما يئس العرب والدوليون والشباب اللبنانيون من إمكان التغيير في أفكار وسلوكات الطبقة السياسية والإدارية الفاسدة والحاكمة، صارت الانتخابات عندهم عجيبة العجائب، التي ستلد مولوداً ذكراً مثلما ولدت سارة الزوجة العاقر للنبي إبراهيم إسحاق بعد بلوغها السبعين عاماً. أَوَلم ينظروا إلى لبنان، وإلى الدول العربية بعد الثورات؟ بعد الانتخابات مرّة واثنتين وثلاثاً تشتعل حروبٌ أهلية، وكذلك في لبنان: كانت عندنا أكثريّة في البرلمان، لكنّ المسلّحين أقفلوا برلماننا العظيم، وانصرفوا إلى قتل نوابه، بل وشكّلوا في عهد برلمان الأكثريّة حكومات أكثريّتها الساحقة لهم. ثمّ مَن قال لكم أيّها الأشاوس إنّكم ستحصلون على الأكثريّة، حتّى في الدوائر المسيحية؟!
في الحلقة الثانية غداً:
7 نوافذ للخروج من قلعة الانكسار (2/2)