في عشاء خاصّ منذ أيّام، كنت جالساً بجانب الوزير السابق الدكتور أحمد فتفت، نتبادل أطراف الحديث والشكوى ممّا وصلت إليه أمور البلد والناس. ولأنّ كلّ حديث جمعنا في السابق، وسيجمعنا في المستقبل، لا بدّ أن يكون الشهيد رفيق الحريري جزءاً منه، استذكرنا معاً مواقف الرئيس الشهيد، وكيف روى فتفت في زيارة له، قبل ما يزيد على 20 سنة، إلى مكتب صحيفة “عكاظ” السعودية في بيروت، قصة فوزه في الانتخابات، وكيف تمكّن مِن خرق اللائحة المنافسة منفرداً على الرغم من الحرب الكبرى التي شنّتها الاستخبارات السورية وأتباعها في ذلك الوقت ضدّه.
كان يجيد رفيق الحريري كلّ شيء حتى يُخيّل للبعض أنّه أشبه بالساحر الذي يضرب بعصاه الصندوق، فتخرج جنّيّة جميلة أو يرفع قبعته فيخرج منها للأطفال لعبة
نظر إليّ الدكتور فتفت وقال: “سأخبرك قصّة لم أروِها لأحد من قبل. في انتخابات عام 2000 اتّصل بي اللواء وسام الحسن، وحينها لم يكن لواء، وقال لي: “الرئيس يريدك غداً الساعة السابعة”، قلت له: “من المؤكّد. بعدما تقفل صناديق الانتخابات، سأنزل إلى قريطم وألتقي الرئيس”، فقال لي: “لا، إنّه يريدك غداً صباحاً”. تعجّبت من هذا التوقيت، وذهبت صباحاً إلى قريطم، فطلب منّي الرئيس الشهيد الذهاب معه في جولة. فركب السيارة جالساً أمام المقود ليقودها بنفسه، وجلست قربه، وكانت شبابيك السيارة مفتوحةً. وجلنا في بعض المناطق والشوارع في بيروت، وتقدّم الناس منّا مهلّلين للرئيس، وأنا إلى جانبه، ثمّ عدنا إلى قصر قريطم. وعندما نزلنا من السيارة، قلت له: “ماذا تريد منّي دولة الرئيس”، قال لي مبتسماً: “لا شيء، عدْ إلى الشمال”. فعدت إلى هناك، وكنت طوال الطريق أسأل نفسي: “ماذا كان يريد منّي الرئيس الشهيد”، إلى أن اتّصل بي كُثُر، وكنت لا أزال في طريقي إلى الشمال، يحدّثونني عن جولتي مع الرئيس الشهيد، وكيف نقلتها وسائل الإعلام، وعن انطباعات الناس حولها، فأدركت أنّه كان يخوض حملتي الانتخابية داعماً ومؤيّداً”.
هي قصّة من آلاف القصص عن رفيق الحريري، تروي كيف كان يتعامل مع مَن هم حوله من موظّفين ومستشارين وموالين وأصدقاء، وحتى خصوم، كي لا نقول أعداء. قصة تُشابه آلاف القصص بالمغزى، يتناقلها جميع مَن عرف الرئيس الشهيد رفيق الحريري عندما كان طالباً يقطف الليمون في موسم القطاف في صيدا، وعندما بات رجل أعمال في المملكة العربية السعودية، ثمّ حين أصبح مبعوثاً ملكيّاً خلال مباحثات مؤتمر الطائف، ثمّ رئيساً لحكومة لبنان.
كان رفيق الحريري ماهراً في تقديم الدعم لناسه، كباراً وصغاراً، سياسيين وطلاباً، آباء وأمّهاتٍ وأولاداً. دعمه كان من دون حدود، ولا يحتاج إلى تبريرات أو مقدِّمات. كان يجيد رفيق الحريري كلّ شيء حتى يُخيّل للبعض أنّه أشبه بالساحر الذي يضرب بعصاه الصندوق، فتخرج جنّيّة جميلة أو يرفع قبعته فيخرج منها للأطفال لعبة. كان قادراً على تلوين السماء، وإن لم يعجبنا لونها، وكان مستعدّاً أن يعيد تلوينها كما نحبّ ونشاء.
عدنا مع رفيق الحريري ننشد النشيد الوطني، ونحن نرفع رأسنا ونقف بانتظام. صالحنا مع العَلَم وألوانه، مع الأرزة الخضراء القابعة في وسطه. كنّا نفتخر أمام الأصدقاء العرب والعجم أنّ لدينا رئيساً مثله
لم يكن رفيق الحريري بحاجة إلى أن يتكلّم كي يقنعنا. كنّا فقط نراهن على ابتسامته، وعلى مشيته، وعلى حميته عندما تزيد سمنته، وعلى سمنته حين يفرط في تناول الطعام.
جعل ربطة العنق والبدلة الرسمية وكأنّها لباس حريريّ حصرياً. كان الواحد منّا عندما يترسّم ويتأنّق، تقول له العائلة: ما بالك تقلِّد رفيق الحريري.
طمأننا الشهيد حتى باتت غفوتنا موتاً من كثرة الاطمئنان. أقنعنا بلبنان فصدّقنا كلّ أغاني فيروز التي منحها الأخوان الرحباني أجمل الألحان.
عدنا مع رفيق الحريري ننشد النشيد الوطني، ونحن نرفع رأسنا ونقف بانتظام. صالحنا مع العَلَم وألوانه، مع الأرزة الخضراء القابعة في وسطه. كنّا نفتخر أمام الأصدقاء العرب والعجم أنّ لدينا رئيساً مثله. بهاتفه يتّصل بكلّ الدول والرؤساء والزعماء، وبالهاتف نفسه يطمئن على الصغار لدينا، وعلى المرضى في المستشفيات، وعلى الأيتام في دور الرعاية، ثم يمرّ بالهاتف نفسه على العجزة المنسيّين في مأواهم في ذاك الشارع الخلفيّ المهمل ببيروت.
لا يغفَل الرفيق عن شيء. يدور في الشوارع. ليلاً يتفقّد الرصيف والنفق والكورنيش ودالية عين المريسة وشاطئ الرملة البيضا. يقف في منتصف الليل حالماً بسباق الفورمولا. يغمض عينيه ليستحضر صوت محرّكات سيارات السباق تمرّ من هناك، واللبنانيون يصفِّقون لها ويلوِّحون بأعلام كل الماركات، متناسين أعلام أحزابهم وطوائفهم وتيّاراتهم وكل هذه الخزعبلات.
إقرأ أيضاً: جريمة رفيق الحريري
ساحرٌ هو رفيق الحريري. جعلنا نصدّق كلّ ما قدّمه على المسرح من فنون السحر، فتعاملنا معها على أنّها وعود وأحلام.
.. يسأل البعض “لماذا أكتب عن رفيق الحريري اليوم؟”، لا لشيء، بل لأنّنا لم نعد نملك ما نكتب عنه في هذا الزمن القاحل كالصحراء، لأنّنا نفتقد رفيق الحريري. نحن بحاجة في هذه الأيام لسحره ووعوده وأحلامه، كي نقول إنّنا ما زلنا على قيد الحياة.