نهاية لبنان… والترانسفير الذي لن ينتهي

مدة القراءة 6 د

لا.

ليس الإفلاس فقط. قد تمرّ بلاد في أزمات أقسى. وليس الجوع. عشنا جوعاً مشابهاً في الثمانينيّات. وليست الحرب. تجاوزنا حروباً كثيرة، في 1993، وفي 1996، وفي 2006. وليست الاغتيالات أو الفوضى الأمنيّة. فنحن جيل 2005، واغتيال رفيق الحريري وسمير قصير وجبران تويني ووسام الحسن… وغيرهم الكثير.

لا.

ليس انهيار المؤسسات فقط. فقد توقّفت عن العمل مرّات ومرّات. وليس لأنّ الموظفين ما عادوا يداومون في مكاتبهم، فلا نستطيع أن نطلب إخراج قيد أو ورقة من هذه الوزارة أو تلك.

لا.

ليس تفجير مرفأ بيروت وحسب. وليس موت المئات وجرح الآلاف وتشرّد مئات الآلاف. عشنا مشاهد مشابهة في حروب واغتيالات.

وليست الأجهزة الأمنيّة التي بدأت تنهار. ليس الدركي الذي قال لي قبل أيام: “راتبي لا يكفيني لشراء شفرات الحلاقة ودفع ثمن البنزين إلى الخدمة”. وليس العسكري الذي راح يبكي أمام صرخات المحتجّين الأسبوع الفائت.

ليس البنزين. ليست طوابير الذلّ التي كسرتنا. ليست الإقامة الجبرية لغير القادرين على دفع ثمن البنزين أضعافاً مضاعفة في السوق السوداء. نحن من أرحام عاشت ردحاً طويلاً من حياتها في الملاجىء.

الذين غادروا أو سيغادرون بعقود عمل وهجرات واضحة، هؤلاء سيخرجون بكراماتهم. أمّا نحن الذين بقينا فقد نخرج مشياً على الأقدام كما في نكبة 1948، أو لاجئين، فلا وقت لدينا لحمل ثيابنا، كما حصل في سوريا

لا.

ليست الحدود السائبة للتهريب والاعتداء والتخريب. ولا هي الدول التي تُعامِلنا كمرحاض عموميّ في المنطقة، أو مكبٍّ لأزماتها. ليست إسرائيل التي ذبحتنا وستظلّ تهدِّدنا. ولا نظام الأسد الذي فجّرنا مرّة بعد مرّة بعد مرّات.

لا.

ليسوا العرب الذين هجرونا. ولا الأوروبيّين الذين لا يروننا إلا في وجوه اللاجئين. ولا أميركا التي تريدنا عبيد مصالحها، وفقط.

لا.

ليس لأنّنا نشحذ الطعام. ولا لأنّنا فقراء. هناك دول فقيرة وعزيزة. هناك أجساد جائعة ونفوسها منتصبة القامة. ولا لأنّ بلادنا صارت مرادف التسوّل ومدّ اليد للقريب والغريب، و”إلّي بيسوا وإلّي ما بيسوا”.

لا ليس كلّ هذا.

ففي اجتياح 1982 صمد أهلنا ورفض كثيرون أن يرحلوا وأن يهاجروا. كان هناك الكثير من الآمال. والذين واجهوا الاحتلال الإسرائيلي واستشهدوا، والذين نجوا وعاشوا ليرووا لنا، والذين جاعوا وهربوا من بيوتهم ثمّ عادوا إليها، كانوا يحملون الأمل في قلوبهم، وكانوا يعرفون أنّهم يدافعون عن أولادهم وأهلهم.

لا ليس كلّ ما سبق.

ففي عزّ حملات الاغتيال السياسية في 2005 وصولاً إلى 2013، كنّا نواجه الاحتلال السوري بدايةً، حاملين فيروس الأمل المُعدي. كنّا نقاتل النظام الأمنيّ، ونناصر الثورة السورية، ونحن نحلم بأنّ غداً سيكون أجمل، وأنّنا جنود هذا الوطن، وإن ضنّ علينا.

حتّى في 17 تشرين الأوّل، حين راحت السلطة تفتك بنا، والقوى الحزبية تطاردنا، في الجنوب وفي أطراف الضاحية وفي وسط بيروت، كان الثوّار يحاولون التوفيق بين المطالب المعيشية وبين الجرأة على حزب الله، الذي كانت هراوات مقاتليه تلاحق الثوّار. وكان هناك بعضٌ من الأمل الباقي بأنّنا سنغيِّر ما بأنفسنا.

كلّ شيء من حولنا ينهار. وللمرّة الأولى بات الجيل الذي وُلِد بعد الحرب، وشبّ في سنوات “الفقاعة المالية” في التسعينيّات وعشرتَيْ الألفية الثالثة، هذا الجيل بات يفتقر إلى الأمل

لكن اليوم، ونحن نسمع عن أقرباء يحملون حقائبهم ويغادرون. ونحن نشيّع أصدقاء عشنا معهم، قرّروا الهجرة النهائية. ونحن نودّع أحباباً اقتنعوا بأنّ هذا ليس وطناً ولا بلداً يمكنهم العيش فيه، بل هو “عنوان” وُلدوا فيه، كما يولد فقير في “العشوائيات”، ويتعلّم أملاً في منزل محترم وحياة “عاديّة” في مدينة “طبيعية”… ونحن نراقب جموع المغادرين في المطار، نكتشف أنّ الأمل انكسر فينا.

للمرّة الأولى أسمع من كثيرين أنّهم ما عادوا يأمنون النوم في لبنان.

ليس خوفاً من كبار السارقين، ولا من صغار الحراميّة الذين يريدون كسر بيوتنا وخلعها ليُطعموا أطفالهم.

ليس فقط بسبب العَوَز. فالمدارس باتت بلا شهادات رسمية. لم يدرس أطفالنا كما يجب منذ عامين، وربّما لن يدرسوا بعد اليوم كما يجب. والجامعات يهجرها أفضل الأساتذة، كما المدارس والمعاهد. يبحثون عن مدن محترمة، ودولارات طازجة، وهذا حقّهم.

ليس خوفاً من فقدان الدواء فقط. بتنا نوصي على الـPanadol من أوروبا والدول العربية. المستشفيات باتت أشبه بمستوصفات من الدرجة الثانية. الأطباء الماهرون هاجروا. الممرّضون رحل نصفهم وفقاً لأرقام رسمية.

كلّ شيء من حولنا ينهار. وللمرّة الأولى بات الجيل الذي وُلِد بعد الحرب، وشبّ في سنوات “الفقاعة المالية” في التسعينيّات وعشرتَيْ الألفية الثالثة، هذا الجيل بات يفتقر إلى الأمل.

فكرة لبنان وطناً جامعاً تسقط من عيوننا. بعضنا ينادي بالفدرالية والتقسيم، وبعضنا يقول: “لا فائدة، غطّيني يا صفيّة”. ومعظمنا يبحث عن مخرج من هذا المستنقع المُرعب.

لا أحد يريد البقاء. ما عادت تربطنا عصبيّة من أيّ نوع. كانت الأغنيات تجمعنا، وإن على مضض. أغنيات عن لبنان، لكبار المطربين وصغار المغنّين، وبينهم نرقص على أنغام “لبنان”.

اليوم، لا نحتاج إلى بواخر تحمل المسيحيين أو المسلمين في سياق حرب مذهبية.

الذين غادروا أو سيغادرون بعقود عمل وهجرات واضحة، هؤلاء سيخرجون بكراماتهم. أمّا نحن الذين بقينا فقد نخرج مشياً على الأقدام كما في نكبة 1948، أو لاجئين، فلا وقت لدينا لحمل ثيابنا، كما حصل في سوريا.

ينكسر لبنان داخلنا هذه الأيّام. ولا حكومة، ولا حتّى تغيير نظام، يمكنه أن يعيد إلينا الأمل بأنّ غداً قد يكون أفضل.

إقرأ أيضاً: “ذا ناشيونال”: لبنان في فوضى.. وأيّام الشيكات السعوديّة ولّت

اليوم نحن في عين عاصفة “ترانسفير” طوعيّ، ستمتدّ طويلاً حتّى آخر لبناني.

قبلها كانت الهجرات موسميّة، مرتبطة بحروب أو أزمات. اليوم لن يبقى غير العاجزين عن المغادرة. بعد كلّ هذا الانفتاح وحرّيّة الحركة والسفر، لن يبقى غير كبار السنّ العنيدين.

هي نهاية لبنان. بعدها قد يصير قاعدة عسكرية، أو مستوطنة لبقايا المافيا والميليشيا، لكنّه ما عاد وطناً… وهذا عطبٌ لا يمكن إصلاحه.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…