لم يكن هناك “سوشيل ميديا” حين مات المتنبّي في عام 965 ميلادي، أي قبل ما يزيد على ألف وخمسين عاماً. لم ينبش أحد حينذاك مواقفه ليحاكمه في لحظة موته. فالمتنبّي كان يمكن أن يُختزل بقصيدة مدح فيها طاغية، ككافور الإخشيدي، أو أشعارٍ قالها لقاء المال في بلاط سيف الدولة. سيبدو أحد أشعر شعراء العرب حينها سخيفاً ورخيصاً وعنصريّاً. أليس هو القائل في ثورة غضبه على كافور: “لا تشترِ العبد إلا والعصا معه/ إنّ العبيد لأنجاس مناكيد”؟ وفي القصيدة نفسها، ألا يهين المتنبّي مصر وشعبها، حينما يقول: “نامت نواطير مصر عن ثعالبها/ فقد بشمن وما تفنى العناقيد”؟ هذه القصيدة، على عظمة بعض أبياتها، كفيلة بإعدام المتنبّي أخلاقياً، وإلغاء مساهمته الوازنة في الشعر العربي.
يتحمّل سعدي يوسف، مسؤولية مواقفه الرجعيّة، ومناصرته للديكتاتوريّات، في خضمّ نضاله المفترض ضد الظلم، وهو الذي بقي شريداً وطريداً بسبب ما حلّ بعراقه من قمع واحتلال وإرهاب. لكنّ مواقفه الغاضبة، المجبولة بضيق أفق، وتهوّر، لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن تلغي جودة شعره
لا يرتقي سعدي يوسف إلى مستوى المتنبّي. مع أنّ كثيرين يشبّهونه به. وكثيرون استعادوا أبياتاً للمتنبّي لرثاء الشاعر العراقي بعد وفاته. وكما حال المتنبّي، أمكن لأيّ كان أن يستلّ لسعدي يوسف مواقف قادرة، عبر اختزالها، على إعدامه شاعراً، وتحويله إلى مجرّد مناصر لديكتاتور كبشّار الأسد، أو عنصري يهجو باراك أوباما عبر وصفه بـ”الزنجي المحرّر”، أو اختصاره شعباً كاملاً بعبارة عنصرية، على غرار ما فعل المتنبّي مع المصريين، مستخدماً “قردستان” لإهانة الأكراد. أو نبش قصيدته التي مدح فيها القذّافي بعد موته. وكلّها سقطات أخلاقية تُستعاد مع موت الشاعر ممّن يرفضون الفصل بين جودة شعره وبين مواقفه السياسية. وهذا أمر، لو طبّق على جميع الفنون، لاضطررنا إلى رمي معظم الإنتاج الأدبي والفني في مزابل التاريخ.
يتحمّل سعدي يوسف، بالطبع، مسؤولية مواقفه الرجعيّة، ومناصرته للديكتاتوريّات، في خضمّ نضاله المفترض ضد الظلم، وهو الذي بقي شريداً وطريداً بسبب ما حلّ بعراقه من قمع واحتلال وإرهاب. لكنّ مواقفه الغاضبة، المجبولة بضيق أفق، وتهوّر، لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن تلغي جودة شعره. ومحاسبته عليها، بعد موته، من دون الالتفات إلى تجربته الشعرية الرائدة على مستوى التجديد والصخب والتمرّد والخروج على القوالب، فيها كثير من الظلم للشعر أوّلاً، وللشاعر ثانياً. محاكمته على مواقفه جائزة طبعاً، وضرورية، وكان يمكن أن تُجرى، حضوريّاً، قبل موته، من دون مواربة، ومن دون استفراد بجثّته المضرّجة بآلام التجارب القاسية. كان يمكن لمن استفاقوا على موته، بعدما كانوا نياماً، أن يسامروا سعدي يوسف ويجلدوه في ليله الثقيل. أن يعاتبوه على غرسه سكّين الشعر في خاصرة الحريّة. أن يسألوه كيف لشاعر عظيم مثله، أن ينزلق إلى تمجيد طاغية كمعمّر القذّافي، أو تبرير مجازر بشّار الأسد. ولا بأس أن تفتح هذه الملفّات بعد موته. لا بأس أن يشمت كثيرون به، لكن لن يكون منصفاً أبداً إنكار شعريّته عليه. سيكون هذا طعناً للشعر بسكّين الحريّة والأخلاق.
يموت الشاعر. لكن لا يموت الشعر. يسقط الشاعر أخلاقياً، ولا يسقط الشعر. سعيد عقل حقد على الفلسطينيين. ناصر “الجيش الإسرائيليانيّ”، كما كان يسمّيه، ضدّهم. كانت له مواقف عنصرية، ومجَّد ميشال عون كأنّه إله. هذه سقطات أخلاقية، لكن هل توقف صخور كهذه تدفّق شعر سعيد عقل؟ هل تسدّ هذه السقطات مجرى نهر الشعر؟
إقرأ أيضاً: مريد البرغوثي: شاعر فلسطين الذي “برّد” اللغة
يموت الشاعر، ولا يموت الشعر. يُصلب جسد سعدي يوسف، تخترق المسامير جسده وكأنّه مسيح، لكنّه، كما محمود درويش، ينزل عن الصليب لأنّه يخشى العلوّ ولا يبشّر بالقيامة. لأنّه شخص عاديّ مثلنا، لا يطلب مُلكاً ولا نفوذاً. يقول في إحدى قصائده: “أنا لا أرغبُ في أن أُمسي ملكاً”، وينهيها بـ: “سأُتابعُ منذُ اليوم دروسَ الموسيقى/ وأطلبُ من أستاذِ الرسمِ مُرافَقتي/ عبرَ متاحفِ روما/ هذا الصيف…”. كان سعدي يوسف شخصاً عاديّاً يلعب بالكلمات. يلوّنها ويحوّلها إلى أشكال، قد تبدو أحياناً مرعبة أو منفّرة، أو غبيّة، لكنّه يبقى شاعراً، لا يملك في رصيده إلا الشعر، الذي يبقى ويعيش طويلاً من بعده، ومن بعد الطغاة: “إنّي امرؤ مثلكم/أستريح إلى غرفة/ وفتاة/ وأغنية/ فلماذا تكون المسامير لي؟”.