فقدنا في 14 شباط الجاري في عمّان، مريد البرغوثي، الشّاعر الفلسطيني الّذي سخّر كلّ حياته لهجاء المراثي والبكائيّات، والّذي كان يكرّر دومًا كتفسير لمنطقه الكتابيّ عبارة “أنا أبني ولا أغني”.
تصلح هذه العبارة كعنوان عام يصف رحلة الشّاعر منذ ديوانه الأول: “الطّوفان وإعادة التكوين” الصّادر في العام 1972، وصولًا إلى ديوانه الأخير “استيقِظ حتى ترى الحلم” الصّادر عام 2018 وما مرّ بينهما من دواوين عديدة، وكتابَيْن نثريّيْن هما “رأيت رام الله” الصادر عام 1997 بتقديم من إدوارد سعيد، والّذي نال جائزة نجيب محفوظ، وكتابه” وُلدت هناك، وُلدت هنا” الصّادر عام 2009.
فعل البناء الّذي ينحاز إليه الشّاعر، يقوم على ربط مشروعيّة الكتابة ووظيفتها بالتّناغم الصّارم بين شكلها، الذي يتّبع قواعد منضبطة يتمّ توسيعها باستمرار، وبين المغزى، وترك كلّ واحد منهما يُخبرعن الآخر ويشرعِنه.
انطلاقًا من هذا المفهوم الّذي بقي وفيًّا له طوال مسيرته، نجح البرغوثي في التّحرر من الكثير من المعضلات والمآزق التي سقط فيها معظم مجايِليه، والّتي لا يزال الكثير من الشّعراء يسقطون فيها. وهو نجح في ردّ كلّ فكرة وكلّ عاطفة، إلى انضباط شكليّ ودلاليّ صارم، يحوّلها إلى حالة مصبوبة في مشهد.
حافظ على تنوّع المواضيع وغزاراتها من ناحية، واستطاع من ناحية أخرى توسيع تجربته ومراكمتها على الدوام، من دون الوقوع في فخّ استنساخ ذاته أو الإعجاب بها.
فعل البناء الّذي ينحاز إليه الشّاعر، يقوم على ربط مشروعيّة الكتابة ووظيفتها بالتّناغم الصّارم بين شكلها، الذي يتّبع قواعد منضبطة يتمّ توسيعها باستمرار، وبين المغزى، وترك كلّ واحد منهما يُخبرعن الآخر ويشرعِنه
أن تكتب من دون مسافة تفصلك عن موضوعك، هي الإضافة الكبيرة التي قدّمها الشّاعر إلى الأدب الفلسطينيّ خصوصًا، والعربيّ عمومًا. قد يكون الوحيد الّذي خاض مغامرة الكتابة من قلب حالة تحتلّه ويغرق فيها. فقدّم هذا الخيار كعنوان للتّجربة الفلسطينيّة في اختبار الوجود وتلقّي الألم والمنفى، والتّعامل معهما.
اختار على الدوام التحدث عن نفسه وكأنه البلاد وأن يجعل كذلك من البلاد مراياه.
لا يملك الفلسطينيّ بنظر البرغوثي ترف الألم الخاص، فهو يولد وفي روحه ألم البلاد والغربة، فالألم هو وجوده الّذي يستعيده في كل أحواله، ما يجعل الشّعر وفق رؤيته مسكونًا بهموم الرّصد والتّوثيق بطريقة التّصوير المشهديّ، الّذي يجعل الحالة مرئيّة.
قد يكون من الشّعراء القلائل الذين يبدو كل كتاب جديد يظهر لهم وكأنه نقد لأعمالهم السّابقة، وكشف لجملة من الإمكانات الجديدة المنسجمة مع المشروع الأساسيّ.
رصد عملية النّمو البطيء ولكن المستمرّ، لتجربته وخياراته الفنيّة، سواء في القصائد البرقيّة القصيرة أو في المطوّلات، يكشف عن خريطة التّطور المنحوت بإزميل التّجربة والمعاينة المباشرة للمواضيع.
في قصيدة بعنوان “الشّاعر” نُشرت عام 1979 يقول:
يبدو كوجه النّهر هادئًا
يقضي شؤون يومه العاديّة
كالجدّة التعبى، وبائع الحليب،
والصبي والعاشق الملول
والمسافر العجول والسيّدة الوحيدة
وفجأة
يُلقى به منفردًا
على شُجيرة شائكة
تلتف حوله فروعها الهائشة المدبّبة
فيبدأ التّململ الملحّ للفكاك من وخزاتها العنيدة
وكلما استطاع أن يزحزح الشّباك
توهّجت من حوله الألوان والغيوم والطرق
وحين يكمل الإفلات
يكون مرهقًا لأنه
يكون أكمل القصيدة”.
تراكِم القصيدة في مقطعها الأوّل سلسلة من التّشابيه، تتآلف للدّلالة على حالة الهدوء والعاديّة، ولكنّها ترسم في مجملها مشهديّة حركيّة لمجموعة متنوّعة من الشّخصيات في حالات محدّدة.
الهدوء ليس لصيقًا بوصف الجدّة بالمطلق، لكنه يلازمه في حالة التّعب، وكذلك الأمر في حالة العاشق الملول والسيّدة الوحيدة، كما أنّ اختياره لبائع الحليب يتلاءم مع الطّابع الحركيّ، فهو شخصية تمارس وظيفتها ومنها تستمدّ حضورها. وحده الصبيّ تُرك من دون إحالة إلى أمر محدّد، لأنه في ذاته حالة، فهذه المرحلة العمريّة تتّسم بصفات البراءة والنّقاء.
بعد هذا المهرجان تأتي المفاجأة عبر الفعل المبني للمجهول، وكأنّه يتضمّن إيحاءً بتدخّل قوة خفيّة لا تُرى، ولكنّ الشّاعر يرينا حركتها وأثرها، من خلال صورة الشّجيرة الشّائكة الّتي يجد شّاعره نفسه مرميًّا عليها، وسعيه المحموم للإفلات من شباكها، وكيف تؤدّي تلك المحاولات إلى اكتشافه الألوانَ والطرق، أي منهجَه الفنّيّ.
في الختام أفلت الشّاعر من الشّباك ونجح في إتمام قصيدته، لكنه سقط في الإرهاق. يتلازم النّجاح في إكمال القصيدة مع الإرهاق، ما يعني أنها لا يمكن أن تُكتب إلّا به ومن خلاله. عمق الاقتران بينهما يجعل كلًّا منهما ناطقًا باسم الآخر ومعبّرًا عنه.
نخلص من هذا التّحليل للكشف عن الطبيعة البنائيّة الّتي وسَمت شعر البرغوثي منذ بداياته. نحن هنا أمام مشهد يتألف من ثلاثة عناصر: التّمهيد العام، والمفاجأة أو العقدة، ثمّ الحل والخاتمة.
قد يكون من الشّعراء القلائل الذين يبدو كل كتاب جديد يظهر لهم وكأنه نقد لأعمالهم السّابقة، وكشف لجملة من الإمكانات الجديدة المنسجمة مع المشروع الأساسيّ
في ديوانه الأخير”استيقِظ كي تحلم” الصادر في العام 2018 تتجلّى عمليّة المراكمة والتّوسيع والنّمو بشكل ناضج، وكأنّ الشاعر يريد أن يتحوّل كلّ الكلام إلى خلاصاتٍ مكثّفة.
يقول في قصيدة بعنوان: “موسيقى بلا نحاس”، مخاطبّا الحرب:
“ثم تعالَيْ نتحدث في أمر محرج
حتى العنزة تنظّف مكانها أيتها الحرب
وأنتِ لا تنظّفين مكانك
كيف تجرّين ضحاياكِ للقيام بخدمتِك
حتى وهم بأكملهم داخل البكاء؟
-هم من يحفرون على عجل
ما لا بدّ من حفره
ويرتّبون الصّمت الأبديّ
في صناديق الخشب
-وأخيرًا أيتها الحرب
لماذا لا ينتهي عملكِ حين ينتصر المنتصر
لماذا لا ينتهي عملكِ حين يهزم المهزوم؟
-جلست منصتًا
لعلّها هذه المرة تجيب
لكنّي لم أسمع
إلا دويّ الغارة التّالية”.
يفكّك الشاعر مفهوم الحرب بإحالته إلى ما لا يحتمله ولا يستطيع التفاهم معه. غالبًا ما تُستحضر الحرب بهولها ورعبها وبصنوجها وطبولها، ولكنّ البرغوثي أعلمنا منذ العنوان أنّه سيقدّم لنا موسيقى بلا نحاس.
منهجه الذي طالما تغنّى به، الخاص بما يسمّيه “تبريد اللّغة والانفعالات”، يحضر هنا في أبهى صوره.
في ديوانه الأخير”استيقِظ كي تحلم” الصادر في العام 2018 تتجلّى عمليّة المراكمة والتّوسيع والنّمو بشكل ناضج، وكأنّ الشاعر يريد أن يتحوّل كلّ الكلام إلى خلاصاتٍ مكثّفة
العنزة تنتصر على الحرب بفعل التّنظيف البسيط والعاديّ. يسلب الحرب القدرة الذاتيّة ويؤكّد أنها لا تعمل إلا من خلال ضحاياها، وتاليًا فإنّ قرار التوقف عن القبول بدور الضحية سيلغيها ويفنيها، ويضع لها خاتمة حاسمة تمنعها من الاستمرار.
يخاطبها مع ثقته بأنها لا تسمعه، ليركّب مشهد اللّقاء مع المستحيل ويجعله حوارًا بين شخصيّات قابلة للمعاينة، هي الشّاعر بوصفه صاحب السّؤال، والحرب الّتي لا تجيب إلا عبر غارة جديدة تمثّل خطابها ومعناها.
إقرأ أيضاً: رحيل عزّت العلايلي: آخر فرسان “البطولة الجماعية”
في هذه القصيدة تبدو أدوات الشّاعر وكأنّها وصلت إلى درجة عالية من الاكتمال والنّضج والحرفيّة. انتقل من صناعة المشهد كما في القصيدة السّابقة إلى فتح المشاهد وتركها تتوالد عبر متلقّ، يفتح موضوع الحرب عنده سلسلة تمثلات بصريّة، موصولة بذاكرته وسيرته، وعلاقته بالمكان وزمانه.
كل هذه التراكمات ليست في نهاية المطاف سوى السّيرة الفلسطينة المقيمة في الحرب، والتي يدفعها عبر مشروع تبريد اللّغة والعواطف، إلى الإقامة في لحظة عقلنة، تتيح نموّ العلاقة مع المكان وتسمح بإعادة بناء زمانه المتشتّت على هيئة وطن.
سيرة ذاتية:
– ولد مريد البرغوثي في 8 تموز عام 1944 في قرية دير غسانة قرب رام الله.
-عام 1963 بدأ دراسة الأدب الإنكليزي في كلية الآداب جامعة القاهرة وحصل على شهادته عام 1967.
– تزوّج من الرّوائية والناقدة الأدبيّة الرّاحلة رضوى عاشور عام 1970 وأنجبا ولدهما الشّاعر تميم البرغوثي عام 1977، وهو العام الذي تم ترحيله فيه من مصر بسبب انتقاداته نظام السّادات.
– حصل الشّاعر على جائزة نجيب محفوظ للرّواية عام 1997 عن “رأيت رام الله” وعلى جائزة فلسطين للشّعر عام 2000، كما اختير ليكون رئيسًا للجنة حكم جائزة الرّواية العربيّة في عام 2015.
أصدر خلال مسيرته الكتابيّة مجموعة من الدواوين الشعرية هي:
الطّوفان وإعادة التّكوين صدر عام 1972
فلسطينيّ في الشّمس صدر عام 1974
نشيد للفقر المسلح صدر عام 1977
الأرض تنشر أسرارها صدر عام 1978
قصائد الرّصيف صدر عام 1980
طال الشّتات صدر عام1987
رنة الإبرة صدر عام 1993.
منطق الكائنات صدر عام1996
ليلة مجنونة صدر عام1999
الناس في ليلهم صدر عام 1999
زهر الرّمان صدر عام 2000
منتصف اللّيل صدر عام 2005
استيقِظ كي تحلُم صدر عام 2018
– له كتابان نثريان هما:
رأيت رام الله صدر عام 1997
ولدت هناك،ولدت هنا صدر عام 2009