فيما كنت أبحث عن محطة وقود لأملأ خزّان سيّارتي، التي غالباً ما أستقلّها في نهاية الأسبوع لأرفّه عن نفس أمّ زهير، قادتني عجلات السيارة، قبيل غروب الشمس، إلى الواجهة البحرية لأمّ الشرائع بيروت، تحديداً صوب منطقة عين المريسة – المنارة، حيث رأيت ما أعادني 40 حولاً إلى الماضي.
كنت قد انقطعت عن زيارة المنارة منذ سنتين تقريباً، وتركت ذاك الكورنيش، الذي كانت أخبار تتواتر بين الحين والآخر عن أكشاك ينوي “الريّس” جمال إنشاءها فيه وفق الطراز الحديث، لكي يؤجّرها للمواطنين، لكنّ المشروع “فرط” بعد مدّة قليلة، إذ تبيّن أنّ حجم السمسرات والمحسوبيّات تجاوز المعقول، وبات كلّ المحاسيب يطمحون إلى توفير كشكٍ لصديق أو قريب أو حبيب أو عزيز.
كانت هذه المشهدية ممنوعة قبل سنوات طويل أيام “الغالي” المغفور له رفيق الحريري، الذي حرر الكورنيش البحري من آفة التحشيش والمخدرات وانتشار الدعارة والتجسس والمراقبة الأمينة
تبدّل المشهد اليوم. فالمواطنون ما عادوا بحاجة إلى تراخيص الريّس جمال. فقر الحال والعَوَز دفعاهم إلى عدم انتظار الأكشاك، وإلى استبدالها بـ”توك توك” كهربائي. وهو كشك نقّال يعمل بواسطة التيّار المستمر DC، وبقوّة البطاريات وبحوْلها… و”بلا عازة” السلطة وتيارها المتردّد AC.
في مشهد غير مألوف منذ سنوات الحرب، رأيت العربات تصطفّ بلا أيّ إذن لبيع العرانيس (مشوي/مسلوق) والترمس والفول وغزل البنات، فترسو عند الرصيف، مُشعشعة الأضواء للفت أنظار المارّة. لم يكن ينقص المشهدية إلاّ “اللوكس” الذي يعمل على الكاز “أبو شاشية”، ومنقل الفحم مع صوت هاني شاكر يصدح في المكان: من بين ألف ضحكة وضحكة بعشق ضحكتك!
بين “توك توك” وآخر مسافة 30 متراً، وكلّ واحد من أصحابها يتفنّن بعرض عرانيسه من أجل استقطاب “المعرنسين”. أمّا البلدية والقوى الأمنيّة فكانت تتفرّج.
كانت هذه المشهدية ممنوعة قبل سنوات طويل أيام “الغالي” المغفور له رفيق الحريري، الذي حرر الكورنيش البحري من آفة التحشيش والمخدرات وانتشار الدعارة والتجسس والمراقبة الأمينة… كذلك فعل الناشر الوزير المشنوق طوال سنواته في الداخلية حتى أنه دفع من جيبه “الضيّق” تعويضاً لخمس عائلات بيروتية حازت على رخص مؤقتة من وراء ظهره لبسطات على الكورنيش. لكن يبدو أنّنا عائدون.
لم يكن مسموحاً استغلال الكورنيش لأي عملية بيع وإنّم لممارسة رياضة الجري و”الكزدرة”. هي مؤشّر فاقع إلى بداية انحلال الدولة، وإلى انعدام النظام وعدم احترام القوانين وإهمال تطبيقها.
بحجّة الفقر ما عادت للسلطة عين أن تطبّق القانون، فماذا يقول شرطي البلدية لمحتاج يريد أن يبيع عرانيسه حتى يأكل أو يُطعم أولاده؟ بأيّ حقّ تسطّر القوى الأمنيّة محضر ضبط لمن يعجز عن ملء عربته بالبنزين، فيستقلّ عربة تعمل على البطارية، أو يركب دراجةً رسوم الميكانيك الخاصّة بها غير مدفوعة، أو بلا إشارات أو مصابيح؟
كلّ هذه المظاهر سيلحق بعضها بعضاً عمّا قريب، وسنعود إلى “دولة الشحّادين”، وتحديداً إلى دولة الـ”لادولة”… وسيكون الانهيار صبر ساعة.
لم يكن مسموحاً استغلال الكورنيش لأي عملية بيع وإنّم لممارسة رياضة الجري و”الكزدرة”. هي مؤشّر فاقع إلى بداية انحلال الدولة، وإلى انعدام النظام وعدم احترام القوانين وإهمال تطبيقها
ستعود مشهدية السيارات الملطّشة ببقع المعجونة، ومحلات بيع البالة من الثياب، ومهن مثل “الرتّى” و”الكندرجي” التي انقرضت منذ سنوات، ومصطلحات من صنف “نص نعل” و”كعبيات”، وممارسات من الماضي الغابر وأيام الحرب ستجترّها الذاكرة من جديد، وسيستفرغها الماضي ويستخدمها حاضرنا من جديد: “وقاف بالطابور”، “علّي الهاوس”، “عبّي مي للبطارية”… كلّها تعابير راجعة بإذن الله.
بحجّة العَوَز ستتخطّى الدولة الكثير من القوانين، وقد تكبر الأزمات، وتنمو “التكاتيك”، وربّما تتحوّل إلى “إكسبرس”، فتُزرع مجدّداً “الإكسبرسات” على جنبَيْ الطريق البحري مثل أيام الحرب.
قد تعود الطاولات والكراسي البلاستيكية، فتُفرش الأرض من جديد بقشر الترمس وبفضلات اللبّ والبذور، وبأكواب القهوة والنسكافيه البلاستيكية، وتنك البيرة. قد تعود الواجهة البحرية مرتعاً للعصابات والميليشيات وتجّار المخدِّرات مثلما كانت إبّان الحرب… قولوا ألله.
بعيداً من الكورنيش البحري، وتحديداً على أوتوستراد راس النبع، كانت القوى الأمنيّة تزرع حاجزاً أمنيّاً يفتّش السيارات، فرأيت رجال الأمن في طريقي إلى البيت، أنا العائد بـ”خفّيْ حُنين” (من هو حنين بالمناسبة؟)، لأنّ محطات الوقود كانت مقفلة، وقيل لي إنّها تفضّل بيع المواد الملتهبة في وضح النهار خوفاً من المشاكل والزعرنات.
عندما وصلت كان الحاجز يلملم عوائقه البلاستيكية ويهمّ بالرحيل. في الزاوية كانت سيارة ضخمة فارهة ذات زجاج داكن من نوع Truck مركونة، وعناصر الأمن متحلّقون حولها. ثمّ رأيت شابّاً “مرتّب” يترجّل منها، فيما كان أحد رجال الأمن يسطّر له محضر ضبط. عندئذٍ شرع الشابّ يتحدّث بالتلفون، راجياً الاستعانة بأحدهم ربّما من أجل “واسطة” ما.
إقرأ أيضاً: الدبكة على محطّات البنزين: الذلّ فولكلوراً
مشهدان سريعان تفصل بينهما المسافة بين عين المريسة وبشارة الخوري، لكنّهما مشهدان متناقضان (كونتراست) يُظهران ازدواجية معايير السلطة. سلطة كانت تقيم الوزن للمحاسيب، وبحجّة الفقر ما عادت تمون اليوم على أحد.
مشهدان ينذران بولادة دولة جديدة أتعس من سابقتها. دولة جائرة باتت تخجل من جورها وفقر أبنائها، فتحاول استعادة هيبتها عبر “كل مين جلدو بيحمل”.
دولة الفقر والشحّادين… Welcome back في دولة “العرانيس”.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب