إنّه ابن قريتي ترشيش في المتن الجنوبي، لكن لم تُقيّد لي معرفته عن قرب حين كنت شاباً. فهو يكبرني ببضع سنوات، وكان يسكن حيّاً آخر. لم نكن نلتقي في تلك القرية التي يهجرها أهلها عدّة أشهر، ولا يقطنونها إلّا في فصل الصيف، بالنظر إلى شظافة العيش فيها. لم يكن من مناسبات ألتقيه فيها، لكن كنّا نسمع عن تفوّقه العلمي، وكان محطّ اهتمام ودردشات الأهالي. شاهدته عن قرب للمرّة الأولى، حين قصد منزل خالي الخوري يوسف صدقة في برج حمّود ليقدّم له أحد منشوراته العلمية، وقد أعجبنا بفصاحته ومقارباته المتعدّدة، التي كنّا في حينها بعيدين عن معرفتها.
وتوالت الحروب، وتهجّر أهل ترشيش، وأبعدت فيما بينهم مآسي الحرب وخطوط التماس والتباعد الجغرافي. سافرت أنا للدراسة في فرنسا، وانقطعت عنّي أخباره.
تدهشك بساطته، نزعته القروية، تمسّكه بإرث والده القروي الفلاح مربّي الماشية، وهي حال غالبية أهلنا في القرية. لا يتصنّع مجداً ولا يختال فخراً. يجالس الجميع على تعدّد مستوياتهم، ويحاورهم في اهتماماتهم من مواسم الكرز والتين والبطاطا، إلى شؤون البلدية، فقضايا الوطن والتاريخ والمستقبل
في مطلع التسعينيات، كنت في مدينة هامبورغ الألمانية، فقصدت “مركز الدراسات حول تاريخ وثقافة الشرق الأوسط” في إطار مشروع بحثي، وكان مدير المركز حينها المستشرق الكبير البروفسور غرنوت روتر، الذي سألني: “هل تعرف رضوان السيّد في الجامعة اللبنانية؟”. فأجبته أنّي “أعرفه لكونه ابن بلدتي لا زميلاً في الجامعة اللبنانية لأنّه في كلّية أخرى”. وراح يحدّثني عنه لأنّه أشرف على أحد أبحاثه في الدبلوم. وطال الحديث عن رضوان، من دون أن يخفي روتر إعجابه به من عدّة نواحٍ، ولا سيّما فكره العميق وحسّه النقدي وتمسّكه بجذوره.
وعادت ترشيش إلى سالف عهدها، فعدنا إليها، وأعدنا الإعمار، وكان لي أن أبني منزلاً في قطعة أرض صخرية ورثتها عن والدي الذي كان يزرعها قمحاً. وأعاد رضوان بناء منزله الوالديّ، الذي يقع على طريق بيتي.
وبتّ في كل مشوار إلى القرية أمرّ بالقرب من منزله. واعتدت في السنوات الأخيرة أن أمرّ عليه من حين إلى آخر حين يكون في منزله، فأحتسي عنده القهوة وندردش في شؤون القرية والجامعة والبلد.
تدهشك بساطته، نزعته القروية، تمسّكه بإرث والده القروي الفلاح مربّي الماشية، وهي حال غالبية أهلنا في القرية. لا يتصنّع مجداً ولا يختال فخراً. يجالس الجميع على تعدّد مستوياتهم، ويحاورهم في اهتماماتهم من مواسم الكرز والتين والبطاطا، إلى شؤون البلدية، فقضايا الوطن والتاريخ والمستقبل. يحرص على حديقته، مواكباً حال وروده التي تزيّن منزله، ويستطلع وضع شجرة الجوز مقابل شرفته، أو شجرة الخوخ المؤصّلة من ذاك الصنف القديم الذي كان يزرعه الجدود.
ولا أنسى شتول البطيخ التي تزيّن أرض حديقته، وتنضج متأخّرة في أيلول، حين يقلّ البطيخ في السوق، فيستحليها المارّة. ولطالما أخبرت عنها صديقه وزميله في الدراسة في ألمانيا الدكتور جورج كتّورة، حين كان عميداً لكلية الإعلام، وكنت على سبيل المزاح أسأله: هل دعاه رضوان إلى وليمة بطيخ؟ وذات يوم أبلغني أنّه قصد ترشيش ذات نهار كي يتذوّق بطيخ صديقه رضوان، وأنّ مذاقه يستأهل المشوار.
من يلتقِ رضوان السيّد في ترشيش فلن يخطر في باله أنّه أمام مفكّر قد نال قبل أسابيع من وزارة الثقافة المصرية جائزة النيل للإبداع الفكري، وهي أرفع جائزة أدبية تُمنح لغير المصريين. وكأنّ مكوثه في القرية، على تلك الشرفة المطلّة على جبل صنين، والتي تمتدّ أمامها البلدات نزولاً حتى البحر، هو للتزوّد بالطاقة الفكرية قبل انتقاله إلى عمله في بيروت أو قبل كلّ سفرة لارتباطات علمية في الخارج.
إقرأ أيضاً: في فوز رضوان السيّد بجائزة النيل
عندما نزوره، زوجتي وأنا، يتبادل الحديث معها باللغة الألمانية، وتصرّ زوجته وفاء على استقبالنا بأطيب الحلوى. وعندما أكون بمفردي تصرّ وفاء على إعطائي قطعة حلوى لزوجتي. تشعر عنده بهناء منزله، بحرارة استقباله، وبدفئه الإنساني بعيداً عن كلّ الطروحات العلمية والفلسفية.
إنّه رضوان ابن القرية. وهذا ما نحبّ فيه.
* عميد كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة