باكراً جدّاً أدرك الدكتور رضوان السيّد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، أنّ “قضيّتنا الواحدة والدائمة ذات الأولويّة، هي كيف نفهم تجربتنا التاريخية والحضارية في سياقاتها، وكيف نبني حاضراً معاصراً ومتقدّماً لإنساننا وأمّتنا مع العالم وفيه”.
كتب ذلك في عام 1969، في مجلّة “الفكر الإسلامي” الصادرة عن دار الفتوى في بيروت، وهو بعدُ طالبٌ في كلّيّة أصول الدين في جامعة الأزهر في القاهرة، ولم يتجاوز العشرين من عمره.
فابن ترشيش، تلك القرية العالية في جبل لبنان، الذي أراد له والده أن يصبح شيخاً، حملته الأقدار إلى المعهد الديني في بيروت، ثمّ إلى جامعة الأزهر في مصر، حيث نال “العالِمية” (أي صار عالماً) من كلّية أصول الدين في عام 1970، ثمّ إلى ألمانيا حيث حصل على دكتوراه في الفلسفة في عام 1977. ذاك الشاب العشرينيّ تفتّح وعيه الديني والثقافي والسياسي في زمن صعود الأفكار والتيّارات القومية والاشتراكية ضمن مناخات الحرب الباردة وإرهاصاتها العربية. بعد ذلك انتقل، منذ منتصف السبعينيات، إلى معاينة ودرس وقائع ظهور وصعود تيّارات “الإسلام السياسي”، أو كما يسمّيها الإحيائيّات أو الأصوليات الجديدة أو الصحويّات. فكان وعي الدكتور السيّد، منذ مطلعه، وعياً تفاعليّاً، بالسلب أو الإيجاب، مع عقائد وأفكار عصره، سواء اليسارية أو الإسلامية فيما بعد.
تصوّران للإسلام
كان الدكتور السيّد، الذي درس “سياسيّات الإسلام المعاصر”، وهو عنوان أحد كتبه الصادر في عام 1997، من منظور المناهج الاجتماعية الحديثة، مشغولاً منذ بداياته الأكاديمية، كما كتب عنه الدكتور أحمد عبادي، بـ”تعقّل وإدراك الواقع التاريخي والحضاري لأمّته في سياق كوني متغيّر”. من هذا المنطلق بالذات، ساجل اليساريّين والقوميّين، لكن خصّ بسجاله الإسلاميين، الذين “اشتغلوا على تغيير رؤية العالم لدى خاصّة المسلمين وعامّتهم، وهو ما قسّم المسلمين قسمين، لا بين المعتدلين والمتطرّفين، كما قال الأميركيون، بل بين تصوّرين للإسلام: الإسلام الذي يريد العيش في العالم ومعه، والآخر الذي ما عاد يجد مخرجاً من المأزق في غير المواجهة بداخل المجتمعات الإسلامية ومع الغرب المستكبر”. (من كتاب “الصراع على الإسلام” في 2017).
ابن ترشيش، تلك القرية العالية في جبل لبنان، الذي أراد له والده أن يصبح شيخاً، حملته الأقدار إلى المعهد الديني في بيروت، ثمّ إلى جامعة الأزهر في مصر، حيث نال “العالِمية”
فمنذ نبّهه المفكّر الجزائري مالك بن نبي في أواخر الستينيّات إلى أنّ “الإسلام تظهر فيه اتّجاهات بروتستانتية/احتجاجية”، وهو ما انفكّ يدافع عن “التقاليد (الإسلامية) العريقة القائلة بالسكينة والاستقرار”، ويدعو إلى “الدين في أصوله المستقرّة وأعرافه الجامعة أو إسلام التيار الرئيس” (المرجع السابق)، وذلك في وجه “الإحيائيين” الذين “تجاوزوا التقليد أو التجربة التاريخية” (سياسيّات الإسلام المعاصر، 2015)، وسلكوا طريق الانكماش الحضاري، ثمّ دخلوا في “حرب الحضارات التي فرضتها عليهم أطروحات برنارد لويس وفوكوياما وهانتنغتون وباربر (الصراع على الإسلام 2017). وقد هوجم من الجهتين: الصحويّين الذين اعتبروه منحازاً لاعتباره الظاهرة الإسلاموية انشقاقاً في الدين، والليبراليين الذي رأوا في كتاباته تقديساً للتقليد الجامد وتبريراً للاتّجاه المحافظ في الإسلام.
مسعى الإصلاح المتشعّب
إلّا أنّ الدكتور السيّد المتخصّص في الكلاسيكيات الإسلامية، الذي عمل أستاذاً زائراً في أهمّ الجامعات الغربية، ما تراجع أمام الجهتين، وذلك لأنّ دفاعه عن التقاليد العريقة يندرج في سياق اعتقاده بـ”رؤية القرآن الكريم للعالم”. فهذا التصوّر يرتكز على أساس فقهيّ قوامه أنّ “البشر ذوو أصل واحد، وقد كانوا أمّة واحدة، ثمّ اختلفوا. والمطلوب (…) العمل من طريق التعارف للعودة إلى وضع أقرب لمبدئيّات الأمّة الأولى والوحدة الأولى” (الأمّة والجماعة والسلطة 2011).
ومن هذا المنظور، فقد شارك في إطلاق وثيقة “الأخوّة الإنسانية” بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب في الإمارات العربية المتحدة في شباط 2019. وكان قد شارك في صوغ وإطلاق “إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك” في آذار 2017. ومن المنظور عينه، كتب في 17 تموز 2020 مقالة في “الشرق الأوسط”، تعليقاً على تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، قال فيها: “إنّ الإغارة على معابد الآخرين وتحويلها أو هدمها، ليس مطلباً دينياً، ولا عملاً (أخلاقياً) من أعمال البِرّ والقِسط التي يعدّها القرآن مناط العلائق بين البشر لتحقيق التعارف الذي هو غاية الخلْق العليا: «يا أيّها الناس إنّا خلقناكم مِن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» (سورة الحجرات: 13)، فالأتقى هو الأكثر عملاً لإحقاق تعارُف البر والقسط.
الدكتور السيّد محقّق ذائع الصيت في التراث العربي والإسلامي، وهو عمل على بناء جملة من المفاهيم المفتاحية في فهم الفكر الإسلامي الكلاسيكي والمعاصر، بحكم اطّلاعه عن قرب على تجربة الإصلاحيين الإسلاميين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصولاً إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. ولذلك روّعته “عمليات تحويل المفاهيم الدينية وانهيار التقليد الديني، واعتبار الإسلام السياسي والجهادي نفسيهماً بديلاً” (سياسيّات الإسلام المعاصرة 2015). وبناءً عليه، انبرى أوّل أمره للإصلاح الديني. ثمّ اعتبر أنّه، بموازاة الإصلاح الديني، ولتعزيز فرصه، لا بدّ من إنقاذ الدولة الوطنية لتحقيق الإصلاح السياسي وإرساء الحكم الصالح. وفي السياق عينه، يرى أنّ “برنامج العلماء والمثقّفين والمعنيّين بالشأن العربي يرتكز على ثلاث نقاط: الإصلاح الديني، وإنقاذ الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع العالم، خصوصاً أنّ العبء الأكبر في المواجهات بداخل الإسلام ومن حوله تحمّلته وتتحمّله الشعوب العربية والإسلامية، ولا سيّما أنّ إيران استشعرت فائدة التمرّد الإسلامي وإمكانات استغلاله بالمعنى السياسي، ثمّ بالمعنى الديني، ثمّ بالمعنى المذهبي، وذلك في تجاذباتها مع الولايات المتحدة ومع الدول العربية” (الصراع على الإسلام 2017).
يقول الدكتور السيّد: “إنّ التطرّف يؤدّي إلى العنف، والعنف يؤدّي إلى الإرهاب، ولذلك فالإصلاح في الدين يتزامن مع الإصلاح في الدولة الوطنية لتكون عادلة ومستنيرة لأنّها البديل الذي ندعو الناس إليه، سنّةً وشيعةً ومسيحيّين”. فـ”إنقاذ الدولة الوطنية ضرورة للخروج حتّى من المأزق الديني ومن التطرّف الديني، إذ يجب أن يكون هناك بديل. ولا بديل سوى الدولة المدنية التي تهتمّ بمصالح الناس، ومن ضمنها العدالة الاجتماعية”.
شارك في إطلاق وثيقة “الأخوّة الإنسانية” بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب في الإمارات العربية المتحدة في شباط 2019. وكان قد شارك في صوغ وإطلاق “إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك” في آذار 2017
اتجاهات ثلاثة
عليه، يلخّص الدكتور السيّد انشغالاته الأكاديمية والدينية والسياسية باتجاهات ثلاثة كبرى هي:
“الاتّجاه الأوّل: الدراسة الأكاديمية المتواصلة لعلاقة الدين بالدولة والمجتمع في الأزمنة الكلاسيكية والحديثة، ونتيجة هذا الجهد المستمرّ حُزْت جائرة الملك فيصل عن الدراسات الإسلامية في عام 2017.
الاتّجاه الثاني: الإصلاح الإسلامي، الذي عملت عليه طويلاً بعد عام 1995، وصدرت لي فيه عدّة كتب. ثمّ دخلت في مشروعات كبرى للإصلاح مع الأزهر ومع المؤسسات الدينية في المغرب والأردن ومع منتدى تعزيز السلم برئاسة الشيخ عبد الله بن بيا في أبو ظبي. وعملتُ وما أزال على الإمكانات النهضوية لسرديّة جديدة في الإسلام عنوانُها سلامة الدين وسلامة العالم، وسيصدر لي كتاب في الموضوع هذا العام.
الاتّجاه الثالث: العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في العالم، ولا سيّما في العالم العربي. وقد أصدرت في هذا الخصوص دراسات كلاسيكية وحديثة. ومن خلال منتدى تعزيز السلم، ومن خلال العلاقة بالأزهر، شاركت في إعداد مؤتمر الأخوّة الإنسانية. وكتبت عدّة مطالعات حول هذا المؤتمر، وحول مسيرة البابا فرنسيس. وأعمل الآن على دراسة معمّقة لمقاربات البابا تجاه الإسلام، ولإنجازات المؤسسات الدينية الإسلامية، وبخاصة الأزهر، وما هي الإمكانات المستقبلية لهذا اللقاء الكبير بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيّب”.
يضيف الدكتور السيّد: “علاقة الدين بالدولة والمجتمع في التاريخ والحاضر تفرّعت عندي عليها مسألة إعادة كتابة التاريخ الفكري والثقافي للتجربة الحضارية العربية والإسلامية، وتصدر لي باستمرار بحوث جديدة في هذا المجال، وصولاً إلى كتابة دراسة شاملة في الموضوع نفسه من خلال نقد الاستشراق، ونقد الفهم لأصول الإسلام الكلاسيكي والحديث من خلال الاتجاهات الجديدة في السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا”.
إقرأ أيضاً: مصر تكرِّم رضوان السيّد… بأرفع جائزة علميّة
المسألة اللبنانيّة
يدخل الدكتور السيّد في خصائص المسألة اللبنانية، ومن باب الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (1989)، فيقول: “صارت مصالحة في الطائف، وما كان السوريون مهتمّين بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني لأنّها تخرجهم من البلاد. لكن في النهاية خرجوا، فأتى الإيرانيون محلّهم عبر حزبهم المسلّح الذي دخل في تحالف مع الراديكالية المسيحية. وهاتان الراديكاليّتان المسيحية والشيعية أنهتا مسار لبنان نحو الاستقلال والتقدّم”.
ويعتبر أنّ مشكلة لبنان والعالم العربي هي في اختراقهما إيرانياً وتركيّاً، وفي أنّ الدولة الوطنية العربية تعاني معاناة شديدة في استعادة قوامها: “فالمشكلة ليست متّصلة بالعدالة والرحابة الداخلية، وإنّما بالاستقلال والسيادة. لقد أصبحت مشكلتنا مع إيران وتركيا مثل مشكلتنا مع الصهاينة الذين يسيطرون على فلسطين، فتركيا تسيطر هنا وإيران هناك”.
ولذلك يجد أنّه لا بدّ من حركة سياسية نهضوية وثقافية على مستوى وطني للخروج من الراديكاليّتيْن الشيعية والمسيحية… “وما دون ذلك أوهام”، لأنّ “الراديكالية المسيحية تعتبر أنّ حقوق المسيحيين ومصالحهم تقتضي إنهاء النظام اللبناني، والراديكالية الشيعية تعتبر أنّ الدين يقتضي إنهاء هذا النظام”.
ويضيف: “العجيب أنّ حزب الله يقيم قواعد اشتباك مع إسرائيل، لكنّه لا يقيم مثلها مع اللبنانيين، فيعتدي عليهم ساعة يشاء!”.
وإذا كان الدكتور السيّد يعمل على أطروحة الدولة الوطنية في العالم العربي، فهو يفرد اهتماماً خاصّاً بلبنان، و”ذلك بسبب تردّي الأوضاع فيه، ولذا أسّست تجمّعاً سياسياً مع زملاء وأصدقاء بعنوان التجمّع الوطني اللبناني. وكان آخر نشاطات هذا التجمّع الذهاب باتجاه مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي لإنقاذ لبنان واستعادة النهوض فيه، باعتبار أنّ أطروحة البطريرك هي أطروحة عيش مشترك، ووحدة المجتمع والدولة وسلامتهما”.
[PHOTO]