سمير غانم هو الاسم الرسمي لتاريخ علاقة ملايين العائلات العربية بالضّحك الخالص. وهو يكاد يكون الفنان الوحيد الّذي صنع ذاكرة مشتركة بين عدّة أجيال عمادها الضّحك. أجيال تبدأ بالأبيض والأسود، وقبله، ولم تنتهِ إلا برحيله، إذ ظلّ حاضراً في التلفزيون حتّى عام مضى.
يختلف خبر رحيله في وقعه عن كلّ أخبار الرّحيل المتكاثرة لأنّه لم يكن مجرّد نجم وفنان كبير، وغير ذلك من الأوصاف الّتي تُطلق على الراحلين. لقد كان الصاحب الشّخصيّ والمسؤول الرّسميّ عن بهجة متابعيه وسعادتهم، ومدير شؤون الفرح النّادر الّذي كان يحرص على تقديمه طازجاً على الدّوام.
ارتبطت بدايات سمير غانم بفرقة “ثلاثي أضواء المسرح” الّتي أسّسها الضيف أحمد في الستينيات، وكانت تقدّم اسكتشات غنائيّة تمثيليّة تلتقط أنماط العلاقات الاجتماعية أو الأغنيات الشّائعة محليّاً وعالميّاً، وتعيد قولبتها بشكل ساخر. يتطلب قدراتٍ صوتيّة وأدائيّة عالية، وتنظيماً دقيقاً وضبطاً للحركة، وكان يفترض أيضاً نوعاً من سيادة الرّوح الجماعيّة.
في “ثلاثي أضواء المسرح” ظهرت قدرات سمير غانم، وبدأت ملامح فرادته تتجلّى، فقد كان شخصيّة صلعاء تختلف في شكلها وطريقة أدائها عن كل الشخصيّات الّتي كانت سائدة في تلك الفترة.
سمح نزوع الفرقة إلى تقديم الغناء السّاخر بإعادة تركيب أغنيات الفرق المشهورة عالميّاً في تلك الفترة، مثل “البيتلز” الّتي قدّمت الفرقة محاكاة عربية لأغانيها الشهيرة بأداء مميّز في أغنيات مثل “كيوبيد للبيع”، و”جمبري مشوي”.
ظهرت في هذه التّجربة الخامةُ الصوتيّةُ الاستثنائيّةُ لسمير غانم، الّتي تبلورت فيما بعد في تقليد مطربي الموّال بطريقة خاصّة دفعت ببعض الباحثين إلى تسميتها بـ”الموّال السميريّ”.
في “ثلاثي أضواء المسرح” ظهرت قدرات سمير غانم، وبدأت ملامح فرادته تتجلّى، فقد كان شخصيّة صلعاء تختلف في شكلها وطريقة أدائها عن كل الشخصيّات الّتي كانت سائدة في تلك الفترة
في كلّ ذلك، كانت الكوميديا البحتة هي ما يفيض عن الشّخصيّات التي يقدّمها سمير، وما يفرزه أداؤه تلقائيّاً ومباشرةً، بشكل تحوّل فيه النصّ والإخراج والديكورات المسرحيّة إلى عناصر تضاف إلى حضوره. فقد كان بمجرّد ظهوره يسطو على كلّ شيء ويلحقه به.
لم تكن قنبلة الضّحك، الّتي بات انفجارها المضمون بمنزلة العقد الموثّق بينه وبين جماهيره، ناتجةً عن شيءٍ آخر خارجٍ عن حضوره، الّذي يحوّل كلّ شيء إلى كوميديا صافية.
ميزته بين أقرانه أنّه لم يعتمد صيغة الكوميديان الغلبان والحضور الجسدي المبني على الانكفاء والتراجع، ولا اللعب المتكرّرعلى ثيمة الغباء والحماقة. ولم تكن حركته وطبيعة وقفته تتبنّى منطق الإضحاك على الشخصية من خلال تقديم أدوار تستجلب الضحك بالتنمّر على صفات جسديّة وخلقيّة معيّنة أو تقديم حركات معيّنة وتعابير محدّدة.
أنتج قراره بالتّخلّي عن الصلعة، التي وسمت مرحلة ثلاثي أضواء المسرح، الّتي انقطعت مع وفاة الضيف أحمد عام 1970، شخصيّةً جدليّةً تمثّلها باروكة شعر أسود لم يخلعها حتى وفاته، إضافة إلى شارب.
هذا الكاراكتير كان من شأنه أن يجعله أقرب إلى نجوم السّينما الرّومانسيّة والتّاريخيّة وليس إلى الكوميديا، ولكنّه اخترق بهذه الخصوصيّة المجال البصري المألوف لصورة الكوميديان.
تختلف تماماً وقفته، الّتي كانت أقرب إلى التّحدّي والمشاكسة والقتال والرّغبة في المشاغبة، عن منطق الكوميديا العام، إضافة إلى أنّ طوله كان يؤهّله لتقديم أدوار الشر. جعل من نفسه “شخصية” طاغية على أي شخصية جسّدها. بات حضوره يعني “الضحك”. فقال عنه الموسيقار عبد الوهاب إنّه يضحكه من دون جهد، ونجح في إجبار الزعيم عبد الناصر على الابتسام.
في السينما قدّم مجموعة أفلام مع نخبة نجوم، بينهم سعيد صالح ومحمود عبد العزيز في فيلم “البنت الحلوة الكذابة” عام 1977، وعادل إمام في فيلم “البعض يذهب للمأذون مرّتين” عام 1979. وفي الثمانينيات قدّم مجموعة أفلام مثل “أذكياء ولكن أغبياء”، و”سمّورة والبنت الأمّورة”، و”احترس عصابة النساء”. وفي التّسعينيات ظلّ حاضراً في “الأغبياء الثلاثة” و”الرجالة في خطر”، وكذلك في الألفية الجديدة، سلسلة أفلام كان آخرها “عقدة الخواجة” عام 2018.
أنتج قراره بالتّخلّي عن الصلعة، التي وسمت مرحلة ثلاثي أضواء المسرح، الّتي انقطعت مع وفاة الضيف أحمد عام 1970، شخصيّةً جدليّةً تمثّلها باروكة شعر أسود لم يخلعها حتى وفاته، إضافة إلى شارب
في المسرح تعود أولى مسرحيّاته إلى 1964: “طبيخ الملايكة”، ثمّ توالت الأعمال. لكنّ ذاكرة الجمهور تحتفظ بشكل خاص بمسرحيّتيْ “المتزوجون” عام 1978، و”أهلاً يا دكتور” عام 1981، وقد شاركه البطولة فيهما جورج سيدهم.
قبلها قدّم الفوازير مع فرقة “ثلاثي أضواء المسرح” في 1968، لكنّه يُعتبر الشخصيّة الرّجاليّة الوحيدة الّتي قدّمت فوازير مع شخصية “فطوطة” الّتي تحوّلت إلى نوع من كاراكتير أيقونيّ، خصوصاً أنّها كانت تتطلّب توافر مهارات وقدرات أدائيّة وتمثيليّة يندر توافرها في الممثّلين.
إقرأ أيضاً: أوسكار “الهديّة”: الطفلة الفلسطينية تنتصر بـ”البافتا” على الاحتلال
تضاف إلى ذلك مشاركته في عدد كبير من المسلسلات كانت بدايتها في 1965 مع مسلسل “تركة جدّو”، وآخرها عام 2019 مع مسلسل “بدل الحدوتة تلاتة”.
ولم يقتصر عمل غانم على هذه الأنواع، بل اقتحم مجال تقديم البرامج في برنامجيْ “سمير شو” عام 1995، و”ساعة مع سمير غانم” عام 2007.
لم يكن سمير غانم كوميديان مميّزاً وحسب، بل عاش الكوميديا ولم يتورّع في حياته الشخصيّة عن الزّواج بخفّة بعد جلسة ساخرة مثلاً. زّيجة لم تعمّر طويلاً، لكنّها مثّلت رغبته العميقة في تحويل الحياة ومفاهيمها الثّقيلة، مثل الزّواج وغيره، إلى كوميديا مفتوحة.
رحل الكوميديان الصافي، الذي أضحك جمال عبد الناصر.