أصبحت الكهرباء وشبح العتمة بالنسبة للّبنانيين أشبه ما تكون بشبح متعدّد الرؤوس. فتارةً يطلّ هذا الشبح برأسه من زاوية القرار القضائي القاضي بالحجز على بواخر الكهرباء، وقرار الشركة وقف تشغيل البواخر، وطوراً على شكل إبطال سلفة الكهرباء في مجلس الشورى، مع ما سينجم عن ذلك من شحّ في سيولة مؤسسة الكهرباء وفي قدرتها التشغيلية.
أما المشترك بين كلّ هذه الملفات، فليس سوى سوء إدارة هذا القطاع، والفساد المستشري فيه. أما الجديد اليوم، فهو أرقام الميزانية العامة خلال العام الماضي، التي تنبئ بقيمة الاستنزاف الذي سيتسبّب به تمويل الكهرباء هذا العام، بالدولارات الطازجة.
فأرقام الميزانيّة العامّة للأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، التي أعلنتها وزارة المال أخيراً، لا تبشّر بالخير، سواء من جهة قيمة النقد الذي جرى خلقه بالعملة المحليّة لسداد العجز في هذه الميزانيّة، أو من جهة الكمّ الذي تستنزفه مؤسسة كهرباء لبنان من الاحتياطات المتوافرة في مصرف لبنان بالعملة الصعبة. في الحالتين، يكتسب الحديث عن هذه الأرقام اليوم أهميّة استثنائيّة، خصوصاً أنّ خطة حكومة دياب تبشّر اللبنانيين باستمرار تمويل عجز مؤسّسة الكهرباء خلال عام 2021 ممّا تبقّى من سيولة في مصرف لبنان، وهي تمثّل احتياطات المصارف الإلزاميّة المودعة من أموال أصحاب الودائع في المصرف المركزي. ولذلك يصبح من الضروري الاعتماد على أرقام العام الماضي لتقدير الكمّ الذي سيستنزفه تمويل الكهرباء من احتياطات المصارف الإلزاميّة خلال هذا العام.
أما المشترك بين كلّ هذه الملفات، فليس سوى سوء إدارة هذا القطاع، والفساد المستشري فيه. أما الجديد اليوم، فهو أرقام الميزانية العامة خلال العام الماضي، التي تنبئ بقيمة الاستنزاف الذي سيتسبّب به تمويل الكهرباء هذا العام، بالدولارات الطازجة
خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، استنزف تمويل مؤسسة كهرباء لبنان نحو 675.5 مليون دولار، دُفِعت بالاعتماد على احتياطات مصرف لبنان، وذهبت هذه السيولة بالعملة الصعبة لتمويل عقود شراء المحروقات اللازمة لتشغيل المعامل. وبذلك، يكون معدّل استنزاف السيولة، خلال عام 2020، نحو 900 مليون دولار، وهي قيمة كبيرة توازي وحدها نحو 9.28% من إجمالي إنفاق الدولة اللبنانيّة خلال العام الماضي، ونحو 15% من إجمالي الدولارات التي خرجت من مصرف لبنان لتمويل الدعم خلال العام الماضي.
هذه السنة، سيستمرّ الإنفاق من الاحتياط الإلزامي لتمويل عقود الكهرباء، إذا نجحت حكومة دياب بتمرير خطّتها الإشكاليّة لترشيد الدعم. لكنّ كلفة تمويل عقود الكهرباء على الدولة اللبنانيّة لن تقتصر خلال هذا العام على مستوى 900 مليون دولار، كما كان الحال خلال العام الماضي. فخلال السنة الماضية، بلغ متوسط سعر برميل النفط ما يقارب 41$، بعدما شهد سعر البرميل انخفاضات سريعة وقاسية نتيجة أزمة كورونا وما نتج عنها من إقفالات شاملة للعديد من القطاعات الاقتصاديّة في معظم دول العالم. أمّا اليوم، فارتفع سعر البرميل إلى نحو 66.67$ للبرميل الواحد، بالتوازي مع حملات التلقيح الواسعة وإعادة فتح الدول لقطاعاتها الاقتصاديّة. ولذلك من المرتقب أن ترتفع كلفة تمويل عجز مؤسسة كهرباء لبنان، بالتناسب مع ارتفاع سعر برميل النفط.
في عمليّة حسابيّة بسيطة تأخذ بعين الاعتبار سعر برميل النفط الجديد بعد ارتفاعه، يتبيّن أنّه وفقاً لهذا السعر من المفترض أن ترتفع كلفة تمويل مؤسسة كهرباء لبنان على الميزانيّة العامّة إلى نحو 1.46 مليار دولار. هذا إذا افترضنا أنّ سعر البرميل لن يشهد ارتفاعات إضافيّة. وفي حال حصل أيّ ارتفاع جديد في سعر برميل النفط، من الأكيد أنّ كلفة تمويل مؤسسة الكهرباء سترتفع بنسبة متوازية. أمّا مصدر الدولارات المطلوبة لهذا التمويل، فلن يكون سوى الاحتياط الإلزامي المتوافر في مصرف لبنان، خصوصاً أنّ حكومة دياب لم تتمكّن حتّى اللحظة من توفير أيّ مصدر خارجي لتمويل هذا الدعم في المستقبل.
بالإضافة إلى كلّ ذلك، لن تمثّل هذه القيمة مجمل ما سيستنزفه تمويل عقود الكهرباء من احتياطات مصرف لبنان. فخلال العام الحالي من المفترض أن تتعامل الدولة مع استحقاقات داهمة وملحّة في قطاع الكهرباء، كمستحقّات شركة كارادينيز العالقة بالعملة الصعبة والمتوجّبة على الدولة اللبنانيّة، وهي الشركة المالكة لبواخر الكهرباء المؤجَّرة للبنان. مع العلم أنّ مستحقّات الشركة العالقة بلغت حتى اللحظة نحو 180 مليون دولار، ومن المفترض أن تكون هذه المستحقّات موضوع تفاوض بين الدولة اللبنانيّة والشركة خلال المرحلة المقبلة. وتكتسب هذه المستحقّات حساسيّة استثنائيّة، لكون البواخر مسؤولة حاليّاً عن توفير نحو ربع إنتاج لبنان الكهربائي، وهو ما يشير إلى صعوبة الاستغناء عن البواخر في القريب العاجل.
في عمليّة حسابيّة بسيطة تأخذ بعين الاعتبار سعر برميل النفط الجديد بعد ارتفاعه، يتبيّن أنّه وفقاً لهذا السعر من المفترض أن ترتفع كلفة تمويل مؤسسة كهرباء لبنان على الميزانيّة العامّة إلى نحو 1.46 مليار دولار
بمعزل عن مسألة الكهرباء، تشير أرقام الميزانيّة العامّة للعام الماضي إلى مؤشّرات مقلقة أخرى، منها على سبيل المثال تسجيل عجز يُقدّر بنحو 3.59 مليارات دولار حتّى شهر أيلول 2020، فيكون العجز السنويّ 4.79 مليارات دولار. وبغياب أيّ مقرِض للدولة اللبنانيّة في ظلّ حالة التعثّر الحاليّة، اُعتُمد على مصرف لبنان لتوفير السيولة المطلوبة لسداد العجز، من خلال خلق النقد وتسليفه للدولة، فيكون مصرف لبنان قد خلق خلال العام الماضي ما يزيد على 7.22 آلاف مليار ليرة لبنانيّة لتمويل هذا العجز. هذه العمليّة ستمثّل طوال الفترة المقبلة مصدر ضغط إضافي على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وخصوصاً خلال مرحلة رفع الدعم عن استيراد السلع الأساسيّة، وانتقال الطلب على الدولار لتمويل استيراد هذه السلع إلى السوق الموازية.
إقرأ أيضاً: تقنين الكهرباء: حيلة لتمديد عقود.. وتحصيل 300 مليون $
كلّ هذه الأرقام، التي تعكسها الميزانيّة العامّة، تثير المزيد من القلق، وخصوصاً لجهة أثرها على المؤشّرات النقديّة من ناحية سعر الصرف والاحتياطات المتوافرة في مصرف لبنان. أمّا المشكلة الأهمّ، التي تفاقِم من أثر جميع هذه المؤشّرات، فهي تعرُّض لبنان للمزيد من الضغوط على المستوى النقدي بغياب أيّ مصدر للتمويل الخارجيّ، وخصوصاً في ظلّ الجمود الذي يخيّم على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي، وفي ظلّ الفراغ الحكومي الذي يفرض الشلل في جميع الملفّات الإصلاحيّة الأساسيّة.