كلّ الطرقات تؤدي إلى جهنّم. معادلة باتت ثابتة لرسم مسار الأحداث اللبنانية. سعر صرف الدولار يقفز قفزات جنونية، وتقفز معه أعداد المنضمّين عنوة إلى نادي الفقراء والمعدومين. مصرف لبنان يكاد يعلن إفلاسه من العملات الصعبة، ليقفل باب الهدر المقونن المسمّى “دعم المواد الأساسية”. فيما مؤسسة كهرباء لبنان تقترب من لحظة إطفاء محرّكاتها لتُبلغ اللبنانيين بكل أسًى، هبوطهم الرسمي على مدرج مطار جهنّم.
في الواقع، يواجه الاستقرار في التغذية بالتيار الكهربائي، تحدّيَيْن:
الأول هو نفاد الاعتمادات المتبقيّة من موازنة العام 2020، التي كانت مقدرة بـ1500 مليار، ما يعني أنّ مؤسسة كهرباء لبنان ستكون مفلسة نهاية شهر آذار، ولم يعد باستطاعة وزارة الطاقة أن تشتري المزيد من البواخر عبر آلية الـSpot cargo، أي العقود الفورية، وهي الآلية التي جرى اعتمادها منذ بداية العام الجاري بعد انتهاء عقد “سوناطراك” ورفض الأخيرة تمديده أو تجديده.
الثاني هو رفض مصرف لبنان دفع مستحقّات مؤسسة كهرباء لبنان بالدولارات الطازجة، مقابل العقود التشغيلية مع شركات محلية وأجنبية، وهي مصاريف متراكمة من العام 2020 وتتجاوز قيمتها الـ300 مليون دولار. ما دفع تلك الشركات إلى التهديد بوقف أعمالها، ومنها على سبيل شركة “كارادينيز” المشغّلة للمعامل العائمة على البواخر، وتقدّر مستحقاتها المتأخرة، وفق المعلومات، بـ120 مليون دولار (هي بالأساس 180 مليون دولار)، فضلًا عن مستحقات شركة “برايم ساوث” المشغّلة لمعملَيْ الزهراني ودير عمار والبالغة أكثر من 60 مليون دولار.
على الرغم من ذلك يقول بعض المعارضين المعنيين بملف الطاقة، إنّ العنوان العريض للأزمة، هو “إفلاس” حسابات مؤسسة كهرباء لبنان، لكنّ الحقيقة في نظرهم تكمن في مكان آخر: يمارس “التيار الوطني الحر” سياسة الابتزاز والضغط على كل من رئاسة الحكومة وحاكمية مصرف لبنان، مستخدمًا عصا “التقنين”، كي يعيد التجديد للشركات المشغّلة للمعامل بلا أيّ مناقصة، ووفق شروط الأخيرة.
مصرف لبنان يكاد يعلن إفلاسه من العملات الصعبة، ليقفل باب الهدر المقونن المسمّى “دعم المواد الأساسية”. فيما مؤسسة كهرباء لبنان تقترب من لحظة إطفاء محرّكاتها لتُبلغ اللبنانيين بكل أسًى، هبوطهم الرسمي على مدرج مطار جهنّم
يقول هؤلاء، إنّ عقد شركة “برايم ساوث” انتهى منذ أكثر من أسبوعين، لكنّ مؤسسة كهرباء لبنان لم تكلّف نفسها عناء إجراء مناقصة تعاقد مع شركة جديدة. لا بل تركت الأمور تبلغ نقطة اللا عودة، مثقلةً بمستحقّات الشركة غير المدفوعة ما يسمح للأخيرة بأن تكون في موقع قوّة يتيح لها فرض شروطها للمرحلة المقبلة، وهذا ما يحصل.
يضيفون أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ارتكب “خطيئة” حين أبلغ بعض المسؤولين أنّه لن يسمح بانقطاع التيار الكهربائي مهما كلّف الأمر، لأنّ ذلك يعني “قيام القيامة” بوجه الحكومة، وهذا ما لن يسمح به. ولذا ثمة من يستخدم هذا الواقع للضغط على رئاسة الحكومة ومصرف لبنان للتمديد للشركة المشغّلة لمعملي دير عمار والزهراني بحجة توقف المعامل.
يشير هؤلاء إلى أنّ هذه المعادلة تنطبق أيضًا على الشركة المشغّلة للمعامل العائمة التي كبدت الخزينة العامة مئات ملايين الدولارات، وها هي اليوم تستخدم سياسة الابتزاز لتحسين شروطها وتحصيل حقوقها بالدولارات الطازجة.
يعود هؤلاء المعترضون إلى الكلام الذي سبق وأدلى به وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر، الذي أعلن أنّ الوزارة تحقّق وفرًا نتيجة لجوئها إلى العقود الفورية لتأمين الفيول لسدّ حاجة مؤسسة كهرباء لبنان. ويسأل هؤلاء: كيف يمكن لعقد واحد لشحنة محدّدة من الفيول (35 ألف طنّ متري) أن يكون أقلّ كلفة من عقد ثابت مدّته ثلاث سنوات (عقد “سوناطراك”)؟ أليس في هذا التصريح إدانة لسياسة وزارة الطاقة على مدى عقود، بأنّها تكبّدت مبالغ خيالية لتأمين الفيول بواسطة العقد مع الشركة الجزائرية؟
ويسألون أيضًا: ألم يعلن وزير الطاقة أنّ لديه القدرة على استخدام الاحتياطي من العقد الموقع مع “سوناطراك” والذي قد يكفي لمدّة ستة أشهر؟ أين هذا الاحتياطي؟ لماذا لم تستخدمه وزارة الطاقة؟ لماذا لم تشترِ الوزارة عقود نفط آجلة حين بلغ سعر البرميل 20 دولارًا عالميًّا؟
يشير هؤلاء إلى أنّ هذه المعادلة تنطبق أيضًا على الشركة المشغّلة للمعامل العائمة التي كبدت الخزينة العامة مئات ملايين الدولارات، وها هي اليوم تستخدم سياسة الابتزاز لتحسين شروطها وتحصيل حقوقها بالدولارات الطازجة
إلى ذلك، يناقش هؤلاء المعترضون مسألة طلب سلفة الخزينة بقيمة 1500 مليار، بعدما استنفذت مؤسسة كهرباء لبنان سلفة العام 2020 التي بلغت أيضًا 1500 مليار، أي مليار دولار، على اعتبار أنّ مصرف لبنان يدعم الفيول. وها هي وزارة الطاقة تطلب منه دعم كل مستحقّات الشركة حيال العقود التشغيلية، ليشيروا إلى أنّ كل الضغط الذي تمارسه الوزارة راهنًا هدفه الصرف من سلفة العام 2021، من دون وجه قانوني، كونها تحتاج إلى تشريع لا يزال مرفوضًا من جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري. مع العلم أنّ سلفة العام 2020 كان يفترض بها أن تغطي كل عجز المؤسسة، سواء بالنسبة للفيول أو العقود التشغيلية، لا سيما وأنّ وزيرة الطاقة السابقة ندى البستاني سبق لها أن وعدت بتحسين الجباية وخفض الهدر التقني، ولهذا جرى اعتماد تخفيض سلفة الكهرباء من 3500 إلى 1500 مليار ليرة.
وقد قدّم أمس نواب “التيار الوطني الحر”، حكمت ديب وسيزار ابي خليل وفريد البستاني، اقتراح قانون معجّل مكرّر بمادة وحيدة، يقضي “بإعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة مالية بـ1500 مليار ليرة (مليار دولار أميركي) لتسديد عجز شراء المحروقات، وتسديد فوائد وأقساط القروض لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، وذلك من حساب العام 2021”. وقد وصف المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة غسان بيضون الخطوة، بأنّها “استكمال لمجزرة مالية على حساب ما تبقى من أموال المودعين”.
إقرأ أيضاً: خلاف بعبدا – عين التينة: الحكومة أو العتمة!
ولعلّ هذا اللغط الحاصل حول كيفية صرف الـ1500 مليار في العام 2020، هو الذي يفسّر التقاذف الذي كان حصل مؤخّرًا بين وزارة الطاقة وبين مؤسسة كهرباء لبنان، حول الجهة التي يُفترض بها توقيع الموافقة على المستحقّات التي سيدفعها مصرف لبنان لشركة “برايم ساوث”، على اعتبار أنّ هذه المستحقات تعود إلى موازنة 2020.
لكن وفق مصادر مؤسسة كهرباء لبنان، فإنّ سلفة الـ1500 مليار ليرة لا تتضمن مستحقات الشركات المشغّلة، ولذا يتم التفاوض مع مصرف لبنان لدفعها، خصوصًا أنّها شركات أجنبية تريد مستحقّاتها بالدولار الطازج. لكنّ اللافت وفق المعلومات، أنّ إحدى هذه الشركات حين تقدّمت بفواتيرها إلى مصرف لبنان، تبيّن أنّها شركة مساهمة لبنانية، فردّ مصرف لبنان بأنّه سيدفع بالليرة حينها، فعادت الشركة وتقدمت بفواتير جديدة على أساس أنّها شركة أجنبية.