أسئلة كثيرة يثيرها التسريب الصوتي للمقابلة الخاصة، التي أجراها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع الصحافي الاقتصادي سعيد ليلاز لصالح “مركز الدراسات الاستراتيجية لرئاسة الجمهورية”، الذي يشرف عليه حسام الدين أشنا، مستشار رئيس الجمهورية حسن روحاني، وهو كان معاوناً لوزارة الاستخبارات في السابق.
يفترض بهذه المقابلة أن تكون واحدة ضمن سلسلة مقابلات يجريها المركز مع كبار المسؤولين حول تجاربهم في السلطة أو المواقع التي شغلوها، وأن تكون مدرجة في خانة “سرّي للغاية”، ومحميّة بشكل كبير لأنّها غير مخصّصة للنشر.
لعلّ أبرز هذه الأسئلة يتعلّق بتوقيت التسريب والهدف منه: فهل هدفه إعادة خلط الأوراق الداخلية عشيّة استعار معركة الانتخابات الرئاسية؟ وهل الهدف هو إزاحة ظريف من السباق الرئاسي وحسم لعبة التردّد التي يمارسها بين الرفض والقبول؟ هل المراد من التسريب هو الضرب بقوّة على كلّ الأصوات المعارضة للمفاوضات النووية من جهة، وللتفاوض مع واشنطن من جهة أخرى، وإظهار الحقائق التي كانت في حالة من الغموض حول دور المرشد الأعلى، وتبيان أنّ كل ما كان يجري في أروقة وكواليس التفاوض مع الأميركيين خصوصاً، كان بعلمه وموافقته، وهو الذي يتحمّل المسؤولية عن كل النتائج؟ وهل يشكّل هذا التسريب خطّ الدفاع الأخير، الذي يملكه روحاني وفريقه في مواجهة المعارضين لسياساته النووية والتفاوضية، لكبح جماح الأصوات المعارضة والرافضة للعودة إلى طاولة التفاوض؟ ولماذا اختار “المسرِّب” أن يُخرج إلى العلن ما قاله ظريف عن دور المؤسسة العسكرية، وتحديداً حرس الثورة، في السيطرة والتأثير على الإدارة الدبلوماسية والسياسة الخارجية الإقليمية والدولية لإيران؟ وما الهدف من كشف الدور الذي مارسه قائد قوّة القدس الجنرال قاسم سليماني في السياسة الخارجية، ومن الإضاءة على مساهمته في توظيف الدبلوماسية لخدمة الأهداف العسكرية، وعدم سماحه لوزارة الخارجية بالاستفادة من النفوذ العسكري والأمني في الإقليم لتعزيز موقعها التفاوضي مع الأطراف الدولية؟
لعلّ أبرز هذه الأسئلة يتعلّق بتوقيت التسريب والهدف منه: فهل هدفه إعادة خلط الأوراق الداخلية عشيّة استعار معركة الانتخابات الرئاسية؟ وهل الهدف هو إزاحة ظريف من السباق الرئاسي وحسم لعبة التردّد التي يمارسها بين الرفض والقبول؟
ولعلّ أخطر ما جاء في كلام ظريف المسرَّب، أنّه فضح أبعاد الزيارة التي قام بها الجنرال سليماني إلى روسيا، واللقاء الذي عقده مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي جاء بعد لقاء خاصّ تمّ بترتيب من ظريف، بين سليماني ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في طهران. إذ كشف ظريف أنّ زيارة سليماني موسكو جاءت بناءً على رغبة روسية، ومن بوتين نفسه، ولم تكن بإرادة إيرانية نتيجة أمور معقّدة ميدانية يواجهها الوجود الإيراني على الساحة السورية. وكشف أنّ قرار التدخّل أو الدخول الروسي كان قد اتُّخذ قبل الزيارة، وذلك في إطار المصالح الروسية التي كانت تبحث عن قنوات للتمدّد في منطقة الشرق الأوسط وتثبيت مواقعها فيها لمواجهة مخاوفها من حصار أميركي وشيك كانت تنوي إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما اللجوء إليه في إطار استراتيجيّتها لمحاصرة الخطريْن الروسي والصيني.
ما كشفه ظريف في سرديّته المتعلّقة بالزيارة، التي قام بها الجنرال سليماني لموسكو، واللقاء مع بوتين، وإقناعه بضرورة الدخول المباشر إلى الأزمة السورية، يضرب أسس السرديّة التي قدّمها سليماني نفسه وأقنع بها حلفاءه، الذين كانوا يقاتلون معه في سوريا، خصوصاً حزب الله وأمينه العام الذي تبنّى الرواية التي قدّمها سليماني، والتي تفيد أنّه استطاع إقناع الرئيس الروسي باتخاذ قرار المشاركة في الحرب السورية. في حين أنّ الرواية، حسب ظريف، تقول إنّ القيادة الروسية كانت قد اتّخذت قرارها بالدخول قبل زيارة سليماني واللقاء معه. إلا أنّ هذا الدخول كلّف إيران أثماناً بشرية باهظة لا يجرؤ أحد على التطرّق إليها. وقد كانت نتيجة إرسال قوات عسكرية ايرانية إلى القتال الميداني، بعدما كان دورها محصوراً في بُعْديْ الاستشارة والتخطيط. ويعتبر ظريف في هذا الإطار أنّ هذين الدخول الروسي والتورّط الميداني الإيراني جاءا في اللحظة التي كان النظام السوري قد تجاوز أو عَبَر مرحلة الخطر وتهديد الانهيار.
ويربط ظريف القرار الروسي بالدخول إلى سوريا بالتقدّم الذي كان يحصل على مسار المفاوضات، ويقول إنّ الدخول الروسي جاء بعد أسبوع من التوقيع في فيينا، في حين أنّ سليماني سبق أن طلب ترتيب زيارة إلى موسكو قبل التوصّل إلى الاتفاق النووي. لكنّ الجانب الروسي تمهّل في الموافقة واستعاض عن هذه الزيارة بلقاء بين سليماني ولافروف في طهران. ويرجع السبب في مبادرة بوتين لعقد هذا اللقاء إلى الدور السلبي الذي لعبه الجانب الروسي في المفاوضات النووية ورغبته في عدم حصول اتفاق، خوفاً من أن يؤدّي ذلك إلى تقارب بين إيران والدول الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، لِما في ذلك من آثار سلبية على دور موسكو وموقعها في مواجهتها المتشعّبة مع واشنطن، وبالتالي ترك طهران في حالة من انعدام الوزن بين صعوبة التوصّل إلى اتفاق واستمرار حاجتها إلى موسكو، فتبقى هذه الأخيرة الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
ما كشفه ظريف في سرديّته المتعلّقة بالزيارة، التي قام بها الجنرال سليماني لموسكو، واللقاء مع بوتين، وإقناعه بضرورة الدخول المباشر إلى الأزمة السورية، يضرب أسس السرديّة التي قدّمها سليماني نفسه وأقنع بها حلفاءه
نسف السرديّة، التي قدّمها سليماني وتبنّتها قيادة حزب الله، لا يمكن أن يرمّمها لجوء ظريف إلى الطلب من الذين يتّهمونه بالخيانة أن يعودوا إلى الأمين العام لحزب الله اللبناني ويسألوه: “هل أنا عميل؟”. لأنّ ما طرحه في سرديّته عن العلاقة مع هذا الجنرال، وحجم التأثير الذي مارسه على السياسة الخارجية، أثبت أنّه يوظّف الدبلوماسية الإيرانية لخدمة الجانب العسكري من دون مراعاة حاجة هذه الدبلوماسية إلى استخدام الدور والنفوذ الإيرانيّيْن في المنطقة وتوظيفهما في تعزيز موقفها التفاوضي، وصولاً إلى فرض أجندات التفاوض حسب الاحتياجات التي تتطلّبها الساحة العسكرية. وهذا ما دفع زملاء سليماني في مؤسسة الحرس، وقوّة القدس تحديداً، والعديد من قيادات التيار المحافظ، إلى اتّهام ظريف بممارسة “الاغتيال السياسي” لسليماني من خلال اتّهامه بعدم تغليب مصلحة المفاوض الدبلوماسي.
إقرأ أيضاً: لماذا يرفض محافظو إيران وإسرائيل الاتّفاق النوويّ؟
لا شكّ أنّ التسريب الصوتي لمقابلة ظريف سيخلط الكثير من الأوراق في الداخل الإيراني، وعلى مستوى العلاقات الدولية. ويأتي في لحظة حرجة للقيادة الإيرانية التي هي بأمسّ الحاجة إلى عبور هذه المرحلة وما فيها من تحدّيات كثيرة ومعقّدة، إضافةً إلى أنّها قد تكون وضعت نقطة النهاية لحياة ظريف السياسية.