ليس ما يدعو إلى استغراب واستهجان تصرّفات القاضية غادة عون وسلوكها الشعبويّ الذي لا يمكن إدراجه إلا في خانة الإيحاء بتطبيق القانون… من خارج القانون.
من هذا المنطلق، تبدو إحالتها على التفتيش القضائي أمراً أكثر من طبيعي… هذا إذا كان مطلوباً إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة القضاء.
تنتمي القاضية غادة عون إلى مدرسة أوصلت ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهورية بواسطة سلاح “حزب الله”. لم يجد الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، أفضل من ميشال عون كي يقيم في قصر بعبدا. ليست غادة عون سوى ميشال عون الحقيقيّ.
من يحتَجْ إلى دليل على ذلك يستطِع العودة إلى سيرة رئيس الجمهورية الحالي ومواقفه منذ ما قبل وصوله الى قصر بعبدا للمرّة الأولى في أيلول من عام 1988 رئيساً لحكومة موقتة ذات مهمّة محصورة بانتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته.
لم تكن تصرّفات الرجل في أيّ يوم طبيعية، لا في أثناء معركة سوق الغرب الذي كان يصرّ على إدارتها من بعيد، ولا عندما اجتاحت الميليشيا التابعة لإيلي حبيقة بيروت الشرقيّة في آب من عام 1986 ورفض التصدّي لها. لدى أمين الجميّل الكثير ممّا يقوله عن مرحلة ما قبل تكليف ميشال عون رئاسة حكومة موقتة بعدما فرض عليه ذلك فرضاً بسبب اتّفاق مفاجئ توصّل إليه قائد الجيش وقتذاك مع سمير جعجع.
تنتمي القاضية غادة عون إلى مدرسة أوصلت ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهورية بواسطة سلاح “حزب الله”. لم يجد الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، أفضل من ميشال عون كي يقيم في قصر بعبدا. ليست غادة عون سوى ميشال عون الحقيقيّ
كان جعجع، ولا يزال، قائد “القوات اللبنانية”، التي كانت في ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينيّاته ميليشيا من ميليشيات الحرب اللبنانية قبل أن تتحوّل إلى حزب سياسي لاحقاً. يشبه ميشال عون في كلّ تصرّفاته غادة عون… أو تشبه غادة عون ميشال عون، لا فارق. لم يحصل يوماً في تاريخ لبنان أن داهم أحد القضاة شركةً لبنانيةً، وأتى إليها برفقة أنصاره الذين راحوا يصفّقون له ويشجّعونه على فعلته. قبل ذلك لم يكن لمقيمٍ في قصر بعبدا تجاهلُ ما يدور في لبنان والمنطقة والعالم والخوض عاميْ 1989 و1990 حربين، من دون أيّ اعتبار لموازين القوى القائمة، بحجّة مقاومة اتفاق الطائف. لم يكن منطقياً خوض ميشال عون “حرب التحرير” من أجل إخراج الجيش السوري من لبنان في ضوء عدم امتلاكه القوّة التي تمكّنه من ذلك. لم يكن منطقياً بعد ذلك خوضه لـ”حرب الإلغاء” كي ينفرد بالسيطرة على المنطقة الشرقيّة والتفاوض مع حافظ الأسد من موقع قوّة بغية فرض نفسه رئيساً للجمهوريّة. إنّه منطق اللامنطق الذي يشبه منطق المقامر. إنّه منطقٌ لا يزال متّبعاً إلى اليوم، وقد أدّى عمليّاً إلى الحؤول دون تشكيل حكومة لبنانية تستجيب، في الحدّ الأدنى، للنقاط الواردة في المبادرة الفرنسية التي يقول رئيس الجمهورية إنّه موافق عليها!
ما قامت به غادة عون هو إساءة إلى القضاء اللبناني، بل تدمير لصورة السلطة القضائية المستقلّة التي تعمل بعيداً من أيّ تدخّل سياسي. ولكن ما العمل عندما يكون رئيس الجمهورية يرفض منذ أشهر عدّة توقيع التشكيلات القضائية، ويبقي هذه التشكيلات في أحد أدراج مكتبه بسبب تحفّظات عنها؟
في لبنان رئيسٌ للجمهورية لا يعرف بديهيّات النظام السياسي القائم على الفصل بين السلطات. في لبنان أيضاً، توجد قاضية تسير في ركب رئيس الجمهورية. لا تعرف القاضية أنّ القضاء لا يستطيع أن يكون تابعاً لأيّ تيّار سياسي، حتّى لو كان تيّار رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل.
يندرج ما قامت به غادة عون في سياق محدّد يستهدف ضرب ما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانية، وذلك بعدما صار واضحاً أنّ الهدف من الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية هو تكريس واقع يكون فيه سلاح “حزب الله” هو الذي يقرّر مَنْ الرئيس المسيحي للبنان. يصبّ هذا السياق في عمليّة مدروسة اسمها التدمير الممنهج للبنان. مطلوب بكلّ بساطة تدمير كلّ ما يمكن تدميره وإفقار اللبنانيّين كي يسهل على “حزب الله” إحكام سيطرته أكثر على البلد.
في لبنان رئيسٌ للجمهورية لا يعرف بديهيّات النظام السياسي القائم على الفصل بين السلطات. في لبنان أيضاً، توجد قاضية تسير في ركب رئيس الجمهورية. لا تعرف القاضية أنّ القضاء لا يستطيع أن يكون تابعاً لأيّ تيّار سياسي، حتّى لو كان تيّار رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل
بدأت الأوساط الدوليّة تدرك أن ليس في استطاعتها صنع شيء للبنان ما دام ميشال عون في قصر بعبدا. نفضت هذه الأوساط يدها من السياسيين اللبنانيين بعدما فقدت الأمل في تشكيل حكومة. تحوّل لبنان بالنسبة إليها قضيّةً إنسانيّةً مرتبطةً بالاستقرار الإقليمي والمتوسّطي لا أكثر. بات مطلوباً في الوقت الحاضر الحؤول دون موت المواطن اللبناني من الجوع والمحافظة على الأمن قدر الإمكان. يحصل ذلك عن طريق تقديم مساعدات إنسانية في صناديق إعاشة الى المواطنين… والاهتمام بالجيش اللبناني عبر المحافظة على تماسكه، وبقوى الأمن الداخلي، التي ما زالت تمتلك حدّاً أدنى من الفعّاليّة على الصعيد الوطني على الرغم من الاهتراء الذي تعرّضت له آليّاتها بفعل مرور الزمن.
إقرأ أيضاً: نهاية غادة عون
لم يحدث شيء بالصدفة في لبنان. ليس صدفة انهيار النظام المصرفي واحتجاز أموال اللبنانيين والعرب التي في المصارف. ليس صدفة تفجير مرفأ بيروت ومسارعة رئيس الجمهورية إلى رفض أيّ تحقيق دوليّ في الكارثة التي قضت على جزء من العاصمة. ليس صدفة أخيراً أن تركّز القاضية غادة عون بطريقة استعراضيّة على شركة نقل أموال ذات تاريخ عريق، قد تكون أخطأت وقد لا تكون. يبدو مطلوباً، أكثر من أيّ وقت، حلول “حزب الله” ومؤسّساته مكان ما كان يعرف بالدولة اللبنانية، والقضاء نهائياً على القطاعات التي جعلت لبنان بلداً مزدهراً. كان ذلك في ماض قريب لم يمرّ عليه الزمن بعد!