لا، ليس ما حدث لك هو الموت العاديّ الذي طالما ألفناه يا صديقي وسيّدي محمد حسن الأمين، بل هو ضربٌ من الاحتجاج على الحياة، بعدما تحوّلت هي نفسها الى جثّة. ولم يكن الكورونا سوى الوباء المخلّص الذي وفّر لك الذريعة الملائمة للإشاحة بوجهك عمّا دخل من أشلاء البلاد في طور التعفّن النهائيّ.
بلى، لقد قضيتَ اختناقاً يا سيّد الكلمات النبيل، ولكنّ الكورونا ليس وحده مسؤولاً عمّا أصابك، لأنّه لم يقطف منك سوى زفرة الروح الأخيرة، ولأنّ التضييق عليك بدأ منذ عقود. إذ بقدر ما شكّل فكرك التنويريّ الوجه الأكثر نصاعة للمقاومة الحقّة، بدا في الوقت عينه نوعاً من الانحراف المحرج عن الامتثال القطيعيّ و”استقامة” الانغلاق .
لم ينفعكَ بشيء أن تكون عدوّاً شرساً للعدوّ الذي أبعدك عن صيدا، قلعة نضالك الصلب، باتجاه بيروت في ثمانينيّات القرن الفائت، ذلك لأنّ جمع سالبَيْن في لبنان ليس سوى سالب ثالث، حيث يمكن لعدوّ العدوّ أن يكون عدوّاً شديد الخطورة بمعايير الطوائف الهائجة والتطهير العقائدي .
ثمّة مقام آخر، يا سيّد، للحديث عن صداقتنا الطويلة الراسخة، وعن ثقافتك الواسعة، وإصغائك المرهف إلى ما يتفتّح في العمق من موسيقى الأكوان وجذرها الينبوعيّ، وعن افتتانك المفرط بالتجلّيات المتباينة لجمال العالم
كنتَ، يا سيّد، تدركُ تمام الإدراك معنى أن يكون الإنسان غريباً وسط قومه وبني جلدته، وتحفظ عن رسول الله قولته الشهيرة: “وُلد الإسلام غريباً ويعود غريباً”، كما أنّك زرت غير مرّة مقام الإمام الرضا الملقّب بـ”الغريب”. ومع ذلك فإنّ من كانت لديه عفّة نفسك وشفافيّتك المفرطة لم يستطع، وأنّى له أن يستطيع احتمال كلّ ذلك القدر من الغربة القسريّة والتهميش غير المبرّر، وصولاً إلى التخوين والتسديد اللئيم إلى مكان القلب.
منذ ألف عام على وجه التقريب يا سيّد، رأى جدّك المتنبّي بأنّ “بعض الموت ضربٌ من القتل”، بما يشبه تماماً ما حدث لك. وإذ أعلنت من جهتك، ذات قصيدة من بواكيرك “والعصر / إنّ الشعراء لفي خسر”، كنت تحدس بتقهقر القيم النبيلة التي تمثّلها، أمام غيتوات الفتاوى المقفلة وجهنّمات المذاهب “الصافية”. ولعلّ أكثر ما آلمك وأوهن قدرتك على الصمود، هو الرحيل المبكر والمباغت للسيّد هاني فحص، رفيقك الأمثل على طريق أنسنة الغيب والمغامرة التنويريّة، في خيانة موصوفة، لم تكن لتملك القدرة على استساغتها.
ثمّة مقام آخر، يا سيّد، للحديث عن صداقتنا الطويلة الراسخة، وعن ثقافتك الواسعة، وإصغائك المرهف إلى ما يتفتّح في العمق من موسيقى الأكوان وجذرها الينبوعيّ، وعن افتتانك المفرط بالتجلّيات المتباينة لجمال العالم. أمّا ما تبقّى، فسأتركه للصورة المنشورة أدناه، حيث تتبدّى في محيّاك وملامح وجهك القمريّ، كلّ أمارات الطهارة والرقّة، والتأمّل الحزين في علاقة الجمال بالموت.
إقرأ أيضاً: عباس بيضون: ظلّ يبتسم في نعيهِ…
نَمْ إذن حيث تتّحد أجفانك بالأعشاب، وعيناك بالبرك الموسمية الصغيرة، وقلبك بحصى القيعان، يا أبا عليّ. “نَمْ يا إمام الانتظار الصعب فوق تراب ذاك التل / فلسوف تنهض من عظامكَ سكّةٌ / وتشقّ هذا الانهيار بنصلها الأجملْ / وتقاوم المحتلّ / وتقاوم المحتلّ”.
*قطعة نشرها الشاعر شوقي بزيع على صفحته الفيسبوكية.