بات مقلقاً فائضُ التركيز على الزمكّ باعتباره عنواناً للمشكل في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية. من قابله ومن لم يقابله. من اتّصل به ومن لم يتّصل به. من تجاهله ومن بعث له الرسائل بلقاء غيره.
المقلق أكثر هو حالة الانتشاء الوطني بمهانة الزمكّ. انتشاء يكاد يكون بديلاً من أيّ إنجاز معطَّل أو خرق مؤجَّل. أكلنا وشربنا من مهانته. وصار دعاؤنا أنْ ربَّنا أعطنا “من ذلّه” كفافَ يومنا.
مفهومٌ أن يختار الشبيبة المنتفضون في الشارع الزمكّ خصماً لهم. لأسباب جيليّة يرون فيه الخصم الأقرب إليهم. ثأرهم معه منطقيّ وطبيعيّ. لهم أيضاً الحق، في لعبة توازن القوى، أن يختاروا خصماً يقدرون على منازلته. ومفهومٌ أن يصير أكثر السياسيّين كراهيةً في تاريخ الجمهورية اللبنانية هو “البوستر بوي” لغضب الناس.
ما ليس مفهوماً أن يهيمن الزمكّ على خطاب القوى السياسية كافةً، ما عدا النائب سامي الجميّل، وبدرجة أقلّ القوّات اللبنانية، في مقابل الحرص على تغييب المسؤولية عن حزب الله. النائب وليد جنبلاط يقيس تصريحاته بحسابات أمن الجبل. رباعيّ رؤساء الحكومة محكوم بسقف الرئيس سعد الحريري وبتباينات مكوّناته بين السقف الأعلى للرئيس فؤاد السنيورة والسقف الأدنى للرئيس نجيب ميقاتي. والحريري قرّر منذ زمن بعيد أنّ حزب الله مشكلة غيره، خارج لبنان. وقد عوّض عنهم بقدر ما استطاعا، الوزير السابق، النائب نهاد المشنوق، والدكتور رضوان السيّد، سواء في الموقف من مسؤولية الحزب، أو في الدعم العلنيّ، من منبر بكركي، لمبادرة البطريرك الراعي.
مؤدّى ذلك أنّ الزمكّ صار هو المشكلة بدل أن يكون عارضاً من أعراض المرض الأساس الذي يمثّله حزب الله، قوّة الاحتلال السياسيّ والأمنيّ للبنان.
أيُعقل؟
هل البلد بإزاء أزمة حكوميّة أسبابها الجشع والتحاصص، أم أزمة سياسيّة عنوانها الاختلال العميق في كل قواعد الحياة السياسيّة والوطنيّة في لبنان؟
المقلق أكثر هو حالة الانتشاء الوطني بمهانة الزمكّ. انتشاء يكاد يكون بديلاً من أيّ إنجاز معطَّل أو خرق مؤجَّل. أكلنا وشربنا من مهانته. وصار دعاؤنا أنْ ربَّنا أعطنا “من ذلّه” كفافَ يومنا
حزب الله أكثر المرتاحين للإطار الذي تدور المعركة السياسية في داخله. وهو يكاد يتحوّل إلى “شيخ صلح” بين المتخاصمين، كراعٍ صالح للبلاد وأهلها. ويريحه أكثر أنّ المجتمعين الدوليّ (ولا سيّما فرنسا) والعربيّ (أقلّه موقف مصر) يتعاملان مع حزب الله وكأنّه قوّة أمر واقع لا بد من المرور بها بغية تشكيل حكومة تقوم بإصلاحات جذرية، لا أراها آتية في أيّ وقت قريب.
الكلام الأكثر وضوحاً في هذا المجال يصدر عن الكنيسة المارونيّة التي تبدو وحدها غير معنيّة بالزمكّ، وتشير بأعلى درجات الوضوح الوطنيّ والأخلاقيّ والسياسيّ إلى أصل المشكلة، وهي حزب الله. وحسناً فعل الحريري بزيارة البطريرك، من دون أن يعفيه ذلك من مسؤولية أن يصعّد الخطاب السياسيّ للمجموعة السياسيّة التي يقودها.
بات معروفاً أنّ موقف الكنيسة يقوم على مرتكزين، هما إعلان الحياد موقفاً سياديّاً للدولة اللبنانيّة، ومؤتمر دوليّ يكون الرافعة السياسيّة الأمميّة للحياد كما للجهود الإنقاذيّة الاقتصاديّة عبر مؤتمر “سيدر” وصندوق النقد الدوليّ.
الكلام الأكثر وضوحاً في هذا المجال يصدر عن الكنيسة المارونيّة التي تبدو وحدها غير معنيّة بالزمكّ
وحدها الكنيسة، تقريباً، تتعامل مع الأزمة بصفتها الحقيقيّة، وهي أنّها أزمة سياسيّة وطنيّة وليست أزمة تشكيل حكومة. وعليها يتركّز الهجوم السياسيّ التخوينيّ من قبل حزب الله، الذي يعامل القوى الأخرى “بروح أبويّة رعويّة” تتوسّل التسوية والصلح “وتبويس اللحى”.
مشكلة تشكيل حكومةٍ الآن، حتّى لو أتت بأرفع النخب التكنوقراطية، أنّها ستعمل في فضاء الأزمة الوطنيّة، ولن تستطيع أن توفّر الحدّ الأدنى من متطلّبات الانفتاح العربيّ على لبنان. ولتبسيط الأمر أنصح بالنظر إلى العراق، حيث تشكّلت حكومة “عميلة” للعراقيّين ولعروبة العراق والمجتمع الدوليّ برئاسة السيّد مصطفى الكاظمي، الذي حلّ ضيفاً قبل أيام على كلّ من الرياض وأبوظبي، حيث استُقبِل استقبالاً مميّزاً من الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد، ووقّع مع حكومتي البلدين اتّفاقاتٍ استثماريةً يفوق مجموعها 6 مليارات دولار. وهو يتهيّأ لقمّةٍ جديدةٍ مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني عبدالله الثاني.
إقرأ أيضاً: جبران “الزمكّ”
فما هي ميزة الكاظمي؟
ببساطة شديدة يتصرّف الرجل على قاعدة أنّ عروبة العراق، بالمعنى المصلحي المباشر، مسألة استراتيجيّة، وأنّ هيمنة إيران على بعض القرار السياسي في بلده عبر مرتزقة وميليشيات تنتحل مسمّى “المقاومة”، هي أمرٌ مرفوض.
علناً، طلب الكاظمي من قادة إيران كبح جماح الميليشيات المدعومة منها في العراق، مهدّداً بأنّه سيسمّي الجهات الداعمة.
ليس مطلوباً من لبنان أكثر ممّا يفعله الكاظمي، أي أن تتصرّف قواه السياسيّة بحدٍّ أدنى من الصدق مع الذات في ما يتعلّق بأصل المشكلة وهويّتها، وأن تكفّ عن الاختباء خلف الزمكّ ورمي المعارك الوهميّة في وجهه.
حزب الله هو المشكلة.
البقيّة تفاصيل.
ورد في مقال الزميل نديم قطيش بتاريخ 18 تشرين الأوّل 2020، الشرح التالي لوصف “الزمكّ”:
“زمكّ”، كما وصفه الأديب الياس خوري في مقالة بديعة. والزمكّ، كما يشرح لنا خوري “كلمة عامّية تُستخدم في لبنان، وقد حوّلها الناس من صفة إلى شتيمة في كلامهم اليومي. غير أن الكلمة فصيحة، حسب المعلم بطرس البستاني في «محيط المحيط». «الزَمَكة من الرجال: العَجِل الغضوب الأحمق القصير».