مشكلة جبران باسيل بسيطة. عليه فقط أن يقتنع أنه ليس ميشال عون. المشروعية التاريخية لا تُعار وقلّما تورّث. يكاد وليد جنبلاط أن يكون الوريث الوحيد الذي نجح في اجتياز استحقاق الزعامة الموروثة. شخصيته الخاصة مكّنته من حفر مكانه حيث حفره. الخصوصية الدرزية سند إضافي لأن يتسلّق “البلاي بوي” الظلّ الشاهق لعامود السماء.
الحياة السياسية والوطنية في لبنان المعاصر، هي سيرة وراثات مأزومة ومرتبكة. يملكون كلّ سيئات من رحلوا، والقليل القليل من حسناتهم، بحسب عبارة عبقرية تنسب إلى الراحل غسان تويني..
بيد أنّ باسيل أخذ هذه السيرة إلى مستوى جديد من التأزّم والارتباك..
إقرأ أيضاً: الانتحاري جبران باسيل
مذ عاد ميشال عون من منفاه، وباسيل يختبر طاقته الطاردة.. في التيار الوطني الحرّ تزامن صعوده مع استقالات يمينًا ويسارًا، لقادة من شيوخ التيار، ومن نشطائه الأفتى.. في بيئه السياسية الأوسع، لا حليف له إلا حزب الله. لم يعرف لنبيه بري حساسية على سياسي لبناني بمقدار حساسيته على جبران. سليمان فرنجية يمقته بأعلى درجات الشفافية، بحيث لا يترك مناسبة إلا ويعبّر عن ذلك.. وليد جنبلاط لا يحتاج أسباباً خاصة للنفور منه. سعد الحريري اختبره في كلّ نسخه، ولم يحصد إلا خيبة الأمل.
في الأساس ليس أسهل من مقت جبران.
إذا ثار اللبنانيون صارت شتيمته نشيداً للثورة. وإذا قابله الإعلام تنافس محاوروه في جلده.. بيكي أندرسون من الـ “سي إن إن” شوته مرتين.. مرة في دافوس يوم تفتّقت عبقريته عن اقتراح تدريس واشنطن ولندن علم إدارة الدول من دون موازنة… وأخرى في ذروة أزمة الفراغ الحكومي حين توجّهت له بتصنيفات جارحة، لا ينبغي لأيّ سياسي يحفظ لنفسه أدنى مقادير الكرامة الشخصية أن يقبلها..
خسر جبران الانتخابات النيابية مرتين. في المرة الثانية خسر بقانون الدوحة الذي احتفى به احتفاء محمد الفاتح على أبواب القسطنطينية. قال لمارسيل غانم: اتفاق الطائف أخذ، واتفاق الدوحة استردّ
… أما نجمة “سي إن بي سي” الصاعدة هادلي غامبل، فاختارت “حفل شوائه” ليكون علامتها الفارقة في إطلالتها في دافوس، ولتحصد في لبنان إعجاباً غير مسبوق بصحفية أجنبية، ليس حباً بها بل كرهاً بجبران.
وإذا أصابه كورونا، فاق المتضامنون مع الفايروس المتضامنين معه، ولو على سبيل الكوميديا السوداء التي تفصح عن موقع جبران في وعي اللبنانيين لأزماتهم ومشاكلهم..
وحين حاول استخدام ابنه في حملة استدرار العطف في مواجهة فائض معاداته ومقته، زاد على نجله أسباباً، ولو ظالمة، للتنمّر.
ليس أسهل من مقته.
جبران يمثّل كلّ ما يمقته اللبنانيون، لا سيما عصاميي الطبقة الوسطى من الشبيبة الذين انتفضوا في الشوارع منذ 17 تشرين 2019.
“زمكّ”، كما وصفه الأديب الياس خوري في مقالة بديعة. والزمك، كما يشرح لنا خوري “كلمة عامية تُستخدم في لبنان، وقد حوّلها الناس من صفة إلى شتيمة في كلامهم اليومي. غير أن الكلمة فصيحة، حسب المعلم بطرس البستاني في «محيط المحيط». «الزَمَكة من الرجال: العَجِل الغضوب الأحمق القصير».
زمكّ إذًا بالمعنى الحرفي للكلمة.
فهو الضارب الدائم بسيف غيره. لا قوة له يستند اليها في التطاول أو الاشتباك أو التعالي إلا مصاهرته لرجل يحبه. علاقة معقّدة بين رجلين. كأن الجنرال في خريف تجربته يستعير من جبران شبابه. وكأن جبران يستعير من الجنرال مشروعيته التاريخية، ولو الخالية من أيّ إنجاز حقيقي يذكر، لا في قيادة الجيش، ولا في رئاسة الحكومة العسكرية، ولا في القتال، ولا في المنفى، ولا في السياسة، ولا في الرئاسة.
سأعتذر من أيّ قارئ يأتيني بخلاف ما ذكرت، ويُعيِّن للجنرال إنجازاً حقيقياً واحداً يصعب على كتب التاريخ تجاوزه.
خسر جبران الانتخابات النيابية مرتين. في المرة الثانية خسر بقانون الدوحة الذي احتفى به احتفاء محمد الفاتح على أبواب القسطنطينية. قال لمارسيل غانم: اتفاق الطائف أخذ، واتفاق الدوحة استردّ. ثم رسب في الانتخابات التي جرت وفق قانون الستين، بموجب اتفاق الدوحة. في قطر، حاجج الرئيس نبيه بري أن تكتب عبارة “لمرّة واحدة فقط” ورفض عون.. ثم عاد وخاض معركة تغيير القانون، ليأتي مفصّلاً على قياس النجاح المضمون لصهره.
هذا هو جبران. خليط مقزّز من لعبة التخويف، والتبسيط، والكذب، والادّعاء، واللوم الذي لا يتوقّف
وزِّر الراسب في الوزارات التي أراد، لا بقوة كفاءته بل بعضلات الحالة المسيحية التي شكّلها عون. ورُئس المكروه من حزبه على حزبه، لا بقوّة الحضور، بل بالتزكية بعد أن مُنع منافسوه من خوض معركة تفضح تدنّي شعبيته.
هكذا هو جبران. شعبوي من دون شعبية. حالة شاذة حتى في فصيلة الديماغوجيين.
الديماغوجية هي قيادة الناس بالاستناد إلى تعظيم مخاوفهم، والتأكيد على أحكامهم المسبقة تجاه الآخر. يختصر جبران في سلوكه السياسي أبرز صفاتها المتفق عليها:
1- الشمّاعة: ثمّة دائماً شمّاعة يعلّق عليها الديماغوجي فشله أو غضبه.. “ما خلونا” هي الشمّاعة في حالة جبران الذي ما انفكّ ينتقد نتائج سياسات “السنوات الثلاثين الماضية” ناسياً أنّ التيار الوطني الحرّ شريك أساسي في 15 سنة منها، منذ العودة غير الحميدة للجنرال عون إلى لبنان..
2- الخوف: صناعة الخوف هي إحدى أبرز مواهب الديماغوجي. بلسان التخويف يخاطب جبران جمهوره، طارحاً نفسه كسدّ منيع أمام محاولات إلغاء المسيحيين والتطاول على حقوقهم. مرة يخيفهم بالطائف، وأخرى بداعش، وثالثة بالرئاسة التي يراد، بحسبه، نزع صلاحياتها إلى حدود تحويلها إلى رئاسة فخرية.
3- التبسيط: يكره الديماغوجي الأسباب المعقّدة لتفسير أيّ معطى سياسي أو اقتصادي. جبران ديماغوجي أصيل بهذا المعنى. الأزمة الاقتصادية تحلّ بصندوق سيادي يسيّل أصول الدولة. الكهرباء تحلّ بالبواخر. السدود تأتي بالمعجزات. في جعبة جبران حلول مباشرة ودائمة. للسياحة. للطب. لكورونا. لثقب الأوزون. لكلّ شيء.
4- الكذب: جبران يكذب بأعلى درجات الصدق. يحاضر ليل نهار بمحاربة الفساد من دون معركة فساد واحدة جادة. يهاجم خيار البواخر ووعودها باعتبارها كذباً على الناس، ويتحوّل عرّاب مشروع البواخر. لا يرفّ له جفن وهو يحكي عن التضحيات.. يسأله، مارسيل مرة أخرى: “بشو ضحّيت؟”. تخونه العبارات؟ يبحث في سيرته فلا يجد تضحية واحدة يُعتدّ بها!!
5- فائض الوعود: الديماغوجي سيعدك بالقمر ولبن العصفور. وجبران مثله: سيعدك بالمترو في بلاد بلا ماء وكهرباء. سيعدك بالسدود في بلاد صارت أنهارها مجاري صحية. . سيعدك بالازدهار في بلاد على حافة الإفلاس التام . سيعدك بالسلام والاستقرار في بلاد تنام على لغم الحرب الأهلية.
كان يمكن لعون أن يمضي ثلثي رئاسته بمراكمة الانجازات، أياً تكن أكلافها السياسية عليه. وأن يُمضي الثلث الأخير في تهيئة الفرصة لصهره. لكنه فعل العكس
هذا هو جبران. خليط مقزّز من لعبة التخويف، والتبسيط، والكذب، والادّعاء، واللوم الذي لا يتوقّف.
لكنه ديماغوجي من دون “ديموس”، أي الشعب باليونانية.
كائن فراكشتايني، مُجمّع من تصوّرات مضحكة عن بشير الجميل، وكميل شمعون، وميشال عون، وإيلي حبيقة..
منذ عام 2005، استنفد جبران رصيده الصغير كقيادي صاعد في حزب حيوي. الأكيد أنّه استنفد رصيد عمه وفرصته.
لا يوجد عامل واحد يتحمّل مسؤولية الفشل المريع لأسوأ عهد رئاسي لبناني منذ 1920 أكثر من جبران باسيل.
وهذا يقودني إلى الخطأ الذي ارتكبه الجنرال. كان يمكن لعون أن يمضي ثلثي رئاسته بمراكمة الانجازات، أياً تكن أكلافها السياسية عليه. وأن يُمضي الثلث الأخير في تهيئة الفرصة لصهره. لكنه فعل العكس، ولا أدري إن كان فعل ذلك مختاراً او مدفوعاً بشراهة صهره المدلّل. اختار عون أن يضيع 4 سنوات في تسمين صهره ودفعه خلافاً لكلّ قواعد العمل الوطني والسياسي لأن يعامل معاملة الرئيس الثاني في الجمهورية، لا معاملة رئيس الحزب أو التكتل النيابي. وحين بدّد كلّ شيء، صار يلهث اليوم لإنقاذ الثلث المتبقّي له في رئاسته.
إذا كان على جبران أن يقتنع أنه ليس عون، فعلى عون أيضًا أن يقتنع أنه ليس جبران.
لا اقتنع الأول، ولا اقتنع الثاني.
وربما هذا، بالرغم من أكلافه الهائلة، من حسن حظ لبنان واللبنانيين.
من محاسن ما يحصل أنّ عون لن يبيِّض تاريخه المأساوي بحق لبنان عبر رئاسة من ست سنوات، وأن تنطفئ الفرصة أمام جبران لتكرار المأساة بشكل أشدّ إيلاماً.