وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ.. فمن العار أن تموتَ جبانا

مدة القراءة 10 د

ما تركت كلمة الأمين العام لحزب الله مساء الخميس في 18 آذار 2021 مقالاً لقائل ولا أملاً لمتأمّل. ولكي لا تُلهينا التفاصيل التي يمكن العودة إليها فيما بعد، هناك مسألتان أساسيتان ينبغي أن لا ننساهما لأنهما قلب الخطاب كلّه:

– المواجهة مع الولايات المتحدة التي يرى له (ولنا) الاتجاه للقيام بها بهجران صندوق النقد الدولي (كأنما يترجّانا الأميركيون ولسنا نحن المحتاجين لذلك).

– وهجران فكرة الذهاب للمجتمع الدولي والذهاب باتجاه الصين وإيران وروسيا. 

وفي حين كان سعد الحريري يقول من أمام القصر الجمهوري بعد اجتماعه السابع عشر مع رئيس الجمهورية قبل خطاب الزعيم بساعتين إنّ الحكومة التي يتوخّى تشكيلها يريدها أن تكونَ مؤهلةً للذهاب إلى صندوق النقد بالذات، رأى أمين عام الحزب المسلَّح أنّ إيران هي البديل، بدليل استعدادها لبيعنا البترول والغاز بالليرة اللبنانية. أما كلام البطريرك الراعي بشأن الحياد وبشأن المؤتمر الدولي من أجل لبنان، فقد صار عنده تدويلاً ومعناه الذهاب إلى أميركا وإسرائيل.

البطريرك يبني. والبناء أصعب من الهدم. أزمتنا أزمة وجودية كما قال البابا، وكما نحسها نحن. وبالأمس عاد مجلس الأمن يستصرخنا للمرة الخامسة أو السادسة من أجل إحقاق أمرٍ بديهي في كل العالم: إقامة حكومة

ولنقف قليلاً عند هاتين النقطتين: لبنان جزءٌ من النظام العالمي النقدي والمالي والاقتصادي والسياسي. كما أنّ مجتمعه هو جزءٌ من هذه الثقافة العالمية في مصارفه وجامعاته ومستشفياته ومدارسه ونظامه الإداري والقانوني والدستوري. المشكلة لا تنحصر في كيفية استيراد البترول والغاز، بل في إرادة الزعيم مسخ النظام اللبناني أو إلغاءه. وهذه ليست المرة الأولى التي يقترح فيها علينا الخضوع لإرادته في الانقلاب على نظام العيش والدولة الوطنية المستقلة. أما ما قاله البطريرك ويقوله ويوافقه عليه معظم اللبنانيين، فهو سياسات لبنان المعتمدة عبر مائة عام.

فالحياد مقتضى الدستور ونصّه وروحه، وما غلب عليه محورٌ أو دولةٌ إلاّ ونزلت به المصائب، وأفظعها ما يجري عليه خلال حقبة خضوعه لمحور إيران.  هذه المرة أفظع من كل المرات، لأنه لم يترتب عليها احتلال جزء من الأرض، أو الانتقاص من السيادة والاستقلال فقط، بل وانهار خلالها وبسببها نظام عيش اللبنانيين، في شتّى مجالاته.

كلما كانت مشكلةٌ تحدث عندنا تمسّ الأرض والسيادة أو العمران، يسارع العرب لإعادة الإعمار، ويهب المجتمع الدولي لاتخاذ قراراتٍ في مجلس الأمن من أجل لبنان. وحتى الآن، ما تزال الجهات ذاتها هي التي تقدّم معظم المساعدات للشعب اللبناني وللدولة اللبنانية.

لماذا اتجه ذلك كلّه للخمود؟

لأنّ المحور الذي صار أمين عام الحزب قائده مسيطرٌ في لبنان، ويمارس مع “المتأيرنين” الآخرين التخريب ونشر الاضطراب في دولٍ عربية عديدة، ويواجه العالم. البطريرك الراعي الذي دعا لتحرير الشرعية من قبضة المحور إياه، ومن قبضة الميليشيا والمافيا، اتجه كما كانت كل حكومات لبنان تتجه إلى المجتمع الدولي، لأن لبنان فقد حياده، وفقد سيادته، وفقد أمنه، وفقد عيشه الرغد. ولنذكّر بالقرارات الدولية التي عُنيت بأزمات لبنان وأهمها بعد الـ425 (عام 1978): القرار1559، والقرار 1680، والقرار 1701 ، والقرار 1757. وليست كل القرارات صادرة بسبب النزاع مع إسرائيل. بل إنّ  القرار 1559 (ضد القوات الأجنبية والميليشيات)، والـ1680 (لترسيم الحدود مع سورية)، والقرار1757 (لاشتراع المحكمة الدولية الخاصة باستشهاد الرئيس رفيق الحريري).

فليُسمِّ الأمين العام الأمر ما يشاء، لكنْ لا يمكن الخلاص من السلاح غير الشرعي، ومن أفعال الميليشيا والمافيا إلاّ باللجوء إلى المجتمعين الدولي والعربي. فكيف سيساعدنا العالم (ومنه العرب) ونحن يحكمنا تنظيم مسلَّح يعتبره العرب والعالم المتقدم تنظيماً إرهابياً؟!  نعم، لا خلاص من الحالة التي نحن فيها إلاّ بمناداة العالم كما كنا نفعل عندما تغزونا إسرائيل أو يسيطر علينا جنود الأسد وزبانيته، والآن جنود إيران.

لا نعرف إلى من يتحدث الزعيم عندما يزعم أنه لم يستخدم سلاحه بالداخل اللبناني. أوّل من سيبتسم بالطبع لهذا الكلام ميليشيا حزبه التي عاثت وتعيث في الأرض فساداً، ثم أهالي الضحايا والشهداء، ثم السياسيون اللبنانيون الذين صاروا خاضعين لـ”وهج” السلاح، خشية نزول ما هو أفظع بهم وبغيرهم، وهم يرون الاغتيالات تتوالى وتتجدّد وتستمرّ. ثم مَنْ يُخضع الحزب لحكم القانون بإخراجه من المطار والمرفأ والحدود، ومحاسبته على إطلاق تجارة المخدرات وغسيل الأموال وكل الجرائم الشائنة الأُخرى؟

كل اللبنايين الوطنيين والعقلاء والشجعان مع البطريرك في دعوته لتحرير الشرعية، وللحياد، وللمؤتمر الدولي من أجل لبنان. يستنهض البطريرك صاحب صرخة “لا تسكتوا”، إرادة الحياة والنهوض والكرامة لدى اللبنانيين، ويطالبنا بالمضيّ باتجاه العالم من أجل الإنقاذ

ولنذهب إلى التفاصيل. كان جبران باسيل يختبئ وراءك في الإعاقة والتعطيل. أما الآن فقد تخليتَ علناً عن كل المبادرة الفرنسية. تريد بزعمك حكومة تكنو-سياسية لتتحمل “الطبقة السياسية” مسؤولياتها في القرارات الصعبة الضرورية الاتخاذ. لكنك تعلم قبل غيرك أنّ المبادرة الفرنسية علتُها عدم تحمل الطبقة السياسية مسؤولياتها بل خيانتها. وفي حكومة سياسية كيف ستجري الإصلاحات في وزارات الطاقة والاتصالات والبيئة والاشغال والمالية والمصرف المركزي.. إلخ. الذين “تحملوا” المسؤوليات في هذه الوزارات وغيرها هم  جميعاً مرتكبون. وحتى لو تجاوزنا الماضي، فإنهم لن يوافقوا، وكلٌّ في وزارته أو وزاراته، على الإصلاح والتجديد.

تقول: يُحاكَمون! فمن يحاكمهم؟ غادة عون أوبيتر جرمانوس أو وزيرة العدل العظيمة أو سليم جريصاتي؟

قال الفرنسيون بحكومة عاجلة من التكنوقراط مدتها ستة أشهر تقوم بثلاثة أمور: وقف الانهيار، والبدء بإعادة الإعمار، وإطلاق مشروعات لحلّ المشكلات المستعصية. ولو سمحتم أنت وحلفاؤك بذلك، لكانت الحكومة العتيدة قد خاضت التجربة، واستطعنا جميعاً الحكم عليها نجاحاً أو فشلاً، فأبقينا أو غيّرنا أو عدنا على أعقابنا ولو إلى “جنة” حكومات جبران باسيل الشهيرة.

عندك بالطبع مصالح مادية وأمنية في استمرار الاستيلاء على المرافق ومداخيلها المتضائلة أو الناضبة، لكنْ عندك المصلحة الأكبر في بقاء البلاد خالية من الحكومة ومن الأمن العسكري والاجتماعي، كما يفعل أنصار إيران الآخرون في دولٍ عربية، بحجة معاقبة وابتزاز وتهديد إدارة بايدن لعدم إقدامها على مفاوضة إيران بشروطها حتى الآن. وهذا منطقٌ لستُ أدري ما معناه، كما لا أدري كم يضرّ تعطيل لبنان أو تخريب اليمن والعراق وسورية الولايات المتحدة. فحتّى روسيا تريد الآن حلاً في سورية بأي شكل والإيرانيون لا يقبلون ولا يستحون.

إنّما رغم ذلك كلّه سأُسلِّم جدلاً بحرصك على تفعيل إدارة البلاد أو سلطتها التنفيذية. وأنك إذا اضطُررتَ ستؤيد تعويم حكومة حسّان دياب. طيب، أين هو النجاح الذي حقّقته الحكومة القائمة بتصريف الأعمال في أي مجالٍ من المجالات حتى الصغير والتافه منها. أنتم تريدون الابتزاز والتخويف، ومن عنده حليف مثل جبران باسيل لا يحتاج لعدو، وأنا الغريق فما خوفي من البللِ.

أنتَ ورئيس الجمهورية وأطراف أُخرى تتلاعبون من زمان برئاسة الحكومة، وما عدتم مقتنعين حتى بالتقاسم والمحاصصة، تريدون كل شيء. لكنّ هذا التلاعُب والإضعاف ومحاولات الحلول محلّ رئيس الحكومة (الذي كان سامحه الله راضياً أو مسلِّماً) هو سببٌ أساسي أو السبب الثالث بين أسباب الانهيار الخمسة:

– سيطرة الحزب والمحور الإيراني أولاً.

– وتجاهل الرئيس لمقتضيات الدستور والحكم الرشيد ثانياً.

– وتصدع السلطة التنفيذية تحت وطأتكما ثالثاً.

– والفساد ومغارة علي بابا في المال والأعمال والإدارارت وسائر الأجهزة والمرافق ولدى سائر الأقطاب رابعاً.

– وفقد العرب والدوليين بل واللبنانيين المهاجرين للثقة والائتمان بكم ومعكم ومع الطبقة المشهورة. فتوقفوا جميعاً عن المجيء أشخاصاً وأموالاً إلى سويسرا الشرق بعد ما صار وطننا كوبا وفنزويلا الغرب، خامساً.

فلنناضل لكي يبقى لنا وطننا، وتبقى لنا دولتنا. وبالنضال الوطني ومع العالم نستحقّ الحياة

وبقيت مسألتان في خطاب الزعيم تستحقان الذكر بالفعل. دائماً عند الأمين العام حلٌّ خاصٌّ بالشيعة المبتلين بسيطرته. لا أعرف لماذا يخبرهم علناً أنه ما عاد قادراً على الدفع لهم جميعاً أو بعضهم (؟) بالدولار. قلتَ قبل حوالى العام إنّك تريد كسْر الدولار أو إلغاءه. ثم فخرتَ على اللبنانيين بأنّ أنصارك سيظلون يقبضون به. والآن ما عاد ذلك ممكناً. يعني هل ستحيلهم بالتدريج على “القرض الحسن” باعتبار أنّ الليرة اللبنانية مستمرة في الانهيار؟ أظن وبعض الظن إثم (!) أنك ستفعل ذلك لأنك لن تقبل بانضمام محازبيك إلى اللبنانيين الآخرين المفلسين لاعتمادهم على الليرة وحسْب.

والمسألة الثانية طلبك من قائد الجيش أن يمنع سدَّ الطرقات. وهو الأمر الذي يزعج الرئيس أيضاً. وبدلاً من تفكيركم منذ عامٍ وأكثر بمخارج من المأساة اللبنانية أنت وزملاؤك في الطبقة ولو بإرغام الرئيس للموافقة على تشكيل حكومة صالحة وقادرة، قمتم بأمرين متتاليين: حشدتم جمهوراً في وجه جمهورٍ يصرخ من وجع الجوع. ثم صرتم إلى استخدام العنف أو الإحلال أو دفع عناصر للتخريب. وعندما لم ينفع ذلك كلُّه رُحتُم تطالبون الجيش بفتح الطرقات وإلاّ!

لا تعجبنا أو لا تعجب معظمنا نحن اللبنانيين أن تخاطبوا قائد الجيش بهذه الطريقة، وبخاصةٍ أنه قد أوضح في الأسبوع الماضي أنّه لا يستطيع فتح الطرقات في كل لبنان، لأنه لا يستطيع الاصطدام بكل الناس، ثم إنّ حالة الجيش لا تطمئن. اسمحوا بتشكيل حكومة، ثم اطلبوا كل ذلك منها، أما ما تفعله أنت والرئيس بالأمس واليوم وغداً فليس هو الإجابة الصحيحة على ما سميتَه “أزمةً وطنية”: تُواجه الأزمة الوطنية بمشرقية باسيل، وبالقرض الحسن، وبمصارعة أميركا بارتهاننا، وبتعويم حكومة حسّان دياب؟! يا للهول.

لقد شننت عشرات النزاعات المسلَّحة والحروب الأهلية وغير الأهلية أو تسببتَ بها على اللبنانيين  وعلى لبنان ومعنى الدولة والعيش المشترك فيه، وعلى العمران والإنسان. ولذلك ما عاد التهديد بالحرب الأهلية يخيفنا أو يدفعنا للاستسلام لك أو للهجرة. نحن باقون هنا في وطننا وعلى أرضنا. ونعرف أنّ سدّ الطرقات من جانب الجائعين لن يصنع الفرق أو يأتي بالحلّ. المخرج بالمواجهة الشاملة المغيِّرة. لأننا متأكدون بقوّة سلم الأحرار من نزع سلاحك وإزالة سطوتك بدون حربٍ أهلية! ومع ذلك:

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ     فمن العار أن تموتَ جبانا

كل اللبنايين الوطنيين والعقلاء والشجعان مع البطريرك في دعوته لتحرير الشرعية، وللحياد، وللمؤتمر الدولي من أجل لبنان. يستنهض البطريرك صاحب صرخة “لا تسكتوا”، إرادة الحياة والنهوض والكرامة لدى اللبنانيين، ويطالبنا بالمضيّ باتجاه العالم من أجل الإنقاذ. إنقاذ الميثاق الوطني والدستور والعيش المشترك وانتماء لبنان وبقائه إنساناً ومواطناً وعيشاً عزيزاً وآمناً. الآخرون يهدمون.

إقرأ أيضاً: شرعيات ثلاث ومهمة الانقاذ سُنيّة

والبطريرك يبني. والبناء أصعب من الهدم. أزمتنا أزمة وجودية كما قال البابا، وكما نحسها نحن. وبالأمس عاد مجلس الأمن يستصرخنا للمرة الخامسة أو السادسة من أجل إحقاق أمرٍ بديهي في كل العالم: إقامة حكومة!

هل هذا هو التدويل الذي يقود إلى أميركا وإسرائيل؟!

حتّى وزارة الخارجية الأميركية تحثنا على تشكيل حكومة لإنقاذ الاقتصاد.

فلنناضل لكي يبقى لنا وطننا،  وتبقى لنا دولتنا. وبالنضال الوطني ومع العالم نستحقّ الحياة.

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…