لقمان سليم: هل هو اغتيال الثقافة البديلة؟

مدة القراءة 7 د

أربع لقاءات جمعتني بالراحل المغدور لقمان سليم، إثنان للحديث عن إشكاليات سياسية تتعلق بحركة أمل ما بعد نبيه بري، حيث فنّد خلالها العلاقة بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر خير تفنيد، واعتبر أنّ حزب الله يقوم بضرب الرئيس نبيه سياسيًا ضربة تلو الضربة بواسطة غريمه جبران باسيل وميشال عون، ورأى أنّ حزب الله سيرث ثلاثة أرباع حركة أمل.

وفي لقاء ثانٍ تحدّث واستفاض حول العلاقة بين حزب الله الديني وبين ما يسمى بالأحزاب المدنية والعلمانية في لبنان وشرح آلية الإستتباع والتجيير التي ينتهجها حزب الله في علاقاته مع هذه الأحزاب.

لقاءان آخران يمكن وضعهما تحت الخانة الثقافية. طرحت عليه مشروعًا ثقافيًا أودّ العمل عليه في الضاحية الجنوبية ولم أجد أفضل من “أمم” لتبنّي هذا المشروع. جلسنا في أحد مقاهي الحمراء وتبادلنا الحديث والأفكار حول ما يمكن إنتاجه من مشاريع ثقافية.

قال لي: “بدّي منك تعمل مشروع يوثق أخبار الناس، مشروع يكون شعبي بلسان الناس، إذا بتقدر توثّق موضوع معين إنّك تطلع بالباص على بعلبك وتسمع حكي الناس، أو تبرم الضيع ببعلبك وتجيب خبريات الثأر وقصص الثأر المتبادلة، هيدا بكون مشروع فيك تشتغل عليه وتدعمك أمم”.

في لقاء ثانٍ تحدّث واستفاض حول العلاقة بين حزب الله الديني وبين ما يسمى بالأحزاب المدنية والعلمانية في لبنان وشرح آلية الإستتباع والتجيير التي ينتهجها حزب الله في علاقاته مع هذه الأحزاب

إن كان لي أن أصفه فسأقول عنه: رجل متواضع وجريء، لا يُملّ من كلامه. ومعلوماته ونظرته إلى الأمور ثاقبة وتصوّراته عن لبنان واضحة. يفهم الإجتماع اللبناني حقّ الفهم ويفنّد الإجتماع الشيعي في مختلف مجالاته، وقلّما يطرح فكرة أو رأياً دون أن يربطه بالماضي. لقمان سليم مفكّر يهتم بجذور الظواهر والأفكار ونشاتها ليبني عليها ما صارت هذه الظواهر في الحاضر وكيف ستستمر في المستقبل. أما عن فكره فأقول: لقمان سليم ليبرالي ديموقراطي وفي ذلك إيمانه بالحرية والديموقراطية وأهمية تفتّح الشخصية الإبداعية عند الشيعة في لبنان واللبنانيين بشكل عام.

في مكتبه في الغبيري نجلس، يسكب ليه فنجان قهوة ويحضر قنينة مياه يضعها أمامي ويسألني عن صديقنا المشترك. يجلس ويشعل سيجارة. علاقة غرامية بينه وبين القهوة والسيجارة. أبدأ حواري معه بالقول: “أستاذ لقمان سليم معك فراس..” يقاطعني: “بلاها الأستذة، تركناها لغيرنا، قول لقمان”. أكمل حواري وبدل نصف الساعة المتفق عليها يمتد الحوار لساعة من الوقت مع جريان كبير من الأفكار يستحضرها من التاريخ والماضي ومن الحاضر ويستعين بالأدلة والبراهين والشواهد، فلم يكن يرمي التهم جزافًا. يقفز من الحديث عن الأحزاب اليسارية إلى الأحزاب القومية والناصرية والبعثية وصولًا إلى تفكيك الخطاب السياسي الراهن. أختم لقائي به بسؤال: كيف تودّ أن أعرّف عنك؟ يردّ: “لقمان سليم”، لكني أصرّ على تعريف فيجيب بابتسامة ساخرة: “إذا مصرّ تركب لي طربوش، قول الكاتب السياسي لقمان سليم”.

إقرأ أيضاً: عندما لا يعود هناك مفرّ من المواجهة

لم يكن لقمان كارهاً لشيعيته، بل كان شيعياً غير مأزوم الهوية، بعكس ما قام حزب الله بترسيخه من مأزومية مستدامة للهوية الشيعية والتي يبدو أن لا أفق لها، وفق فادي توفيق، وهو كاتب وباحث وفنان عمل مع سليم لسنوات طويلة وأنتجا سويًا مشاريع ترجمة وتسجيل تراث، لعبدالله العلايلي مثلاً وتأسيس “هنغار أمم” عام 2004.

إذاً، لقمان استمرارية لهذا الشيعي غير المأزوم ثقافيًا وحضاريًا، وليس من النوع الذي يحمل التاريخ بمآسيه على أكتافه لينتج من هذا التاريخ حاضرًا ومستقبلًا كما فعل ويفعل حزب الله بالشيعة اليوم. فهوية مأزومة لن تنتج إلا ثقافة مأزومة واجتماع مأزوم وحياة مأزومة.

ويقول توفيق أنّ سليم “كان معارضًا من موقع قوّة لأنّ لديه فكر ودراية وكان يحاول قدر الإمكان شرح المسائل التي صارت عسيرة على الفهم لدى شريحة واسعة من البيئة الشيعية وعند اللبنانيين ككلّ. على سبيل المثال، صار الشيعي غير قادر على فهم معنى “الخطر” حتّى صارت “السحاسيح” وقدوم “رانج الإنفوي الأسود” لتأديب أصحاب الرأي المعارض نكاتٍ يتداولها اللبنانيون ضاحكين، لكنّها في العمق كانت أشدّ وأبعد غورًا وتحيل إلى فكرة الإرهاب والإغتيال والتصفية المعنوية والجسدية”.

 يروي توفيق كيف “كان لقمان حريصًا على اللغة العربية والقواعد العربية، وحريصًا على أناقة الكتاب”. وهو كان قد عمل معه على مشروع “كيف حرية في دار حرب!”. لكن لقمان كان يردّد: “كيف حرية بدون شجاعة!” بحسب ما يضيف توفيق. وكان كاشف “أسرار العائلة اللبنانية المقدسة” كما كتب عام 2018.

لم يكن لقمان كارهاً لشيعيته، بل كان شيعياً غير مأزوم الهوية، بعكس ما قام حزب الله بترسيخه من مأزومية مستدامة للهوية الشيعية والتي يبدو أن لا أفق لها

محمود حمادة، أستاذ في الفلسفة، عمل مع لقمان سليم في أكثر من مشروع ومن ضمنها أرشيف الأحداث الثقافية خلال الحرب الأهلية في لبنان، من أبواب “ديوان الذاكرة اللبنانية”، من بين مشاريع رواية سيرة الحرب بلسان عامة الناس وليس على ألسنة المقاتلين والساسة، أيّ أنّه “تاريخ شعبي للحرب”. مشروع آخر بعنوان “مفاتيح السجن السوري” وهو قاموس لغوي يرصد شهادات المساجين في السجون العربية ويرصد العلاقات التي تحكم السجانين والسجناء والقسوة وكل ما يرتبط من علاقات القوة والقتل والتعذيب وغيرها داخل السجون وذلك عبر تجميع وشرح المصطلحات المتداولة داخل السجون باعتبارها مرآة للواقع في السجون العربية. “الدقة” هي ما يميز لقمان سليم في العمل الثقافي والبحثي، يقول حمادة.

وكان سليم يداوم على التذكير بانعدام وجود أي حركة فنية في بيئة حزب الله، وبغربة فنية وثقافية يعيشها الشيعة في بيئتهم المغلقة. فاليساريون أنتجوا ثقافة غنية في لبنان، وحتى البعثيون أنتجوا ثقافة، لكن “فكر” حزب الله كان عدوّاً للثقافة بحسب لقمان. لذلك، كان لزامًا على هذا الحزب خنق أي ثقافة بديلة يمكن أن تطل برأسها. ومن هنا نفهم مدى شراسة حزب الله في مواجهة انتفاضة 17 تشرين وخيم ساحة الشهداء التي كانت تقيم حلقات نقاشية ثقافية حول حقوق المرأة والحقوق المدنية والعلمانية والزواج المدني والطبقية ومناهضة الطائفية والديمقراطية في لبنان. وغيرها من المواضيع حول كل ما يتعلق برابط بين الثورة وبين الفن والرقص والمسرح والموسيقى والسينما والرسم والتصوير ووسائط الفيديو ودور الشباب والطلاب في الثورة وكان لقمان جزءًا من هذه النقاشات ولم يشف غليل الغربان حتى أحرقوا هذه الخيم.

إقرأ أيضاً: سيرة الضاحية… التي حماها لقمان من النسيان

هذا الحزب منع قيام دور السينما والمسارح وكل صالات التسلية والترفيه وكان قاب قوسين أو أدنى من تأسيس جمعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جنوب لبنان. فهل يمكن أن يدلنا أحد على الثقافة في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في جنوب لبنان أو في بعلبك- الهرمل أو في أيّ قرية أو بلدة شيعية؟ هل يمكن أن يدلنا أحد على نتاج الثقافة داخل البيئة الشيعية في السنوات العشرين الماضية حتّى اليوم؟ هل يمكن أن يدلنا أحد ماذا يحصل في المدارس الشيعية من عسكرة للأطفال وعسكرة للمجتمع؟

كان سليم يداوم على التذكير بانعدام وجود أي حركة فنية في بيئة حزب الله، وبغربة فنية وثقافية يعيشها الشيعة في بيئتهم المغلقة

تزخر البيئة الشيعية بالمثقفين ورجال الفن والأدب والفكر لكن أين هم اليوم؟ مشردين خارج بيئتهم، منبوذين خارج مناطقهم وجدوا في بيروت ضالتهم الثقافية. نزحوا بعيدًا لإنتاج ثقافة في مكان آمن بعيدًا عن القبضة الحديدية لنظام “شيعة شيعة شيعة”.

*فراس حمية: كاتب ومسرحي 

مواضيع ذات صلة

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…

فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

أعلن “اللقاءُ الديمقراطي” من دارة كليمنصو تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزف عون لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الإعلان اختراق كبير حقّقه جنبلاط للبدء بفتح الطريق أمام…