عندما لا يعود هناك مفرّ من المواجهة

مدة القراءة 5 د

هذه العبارة في العنوان سمعتُها من لقمان سليم مرتين عبر عشرين عاماً وأكثر. وأذكر أنّه قالها لنا في مجلس عام 2000 بعد صدور بيان البطاركة الكاثوليك بشأن الوجود السوري. ثم قالها لي على أثر احتلال الحزب لبيروت عام 2008، وقراءة مقالة لي عن الحدث المهول في جريدة “الشرق الأوسط”. وفي المرتين كان يصرّ على صيغة الماضي: “من زمان ما عاد هناك مفرّ من المواجهة”.

أما قبل ثلاثة أشهر، وعندما كنا نتشاور بشأن التخطيطات المختلفة لإقامة جبهةٍ أو جبهات، قال: “لولا استمرار الأمل في استعادة ثورة تشرين لزخمها لقلت إنّ فرصة الجبهة، كما فرصة القدرة على المواجهة قد فاتت”.

فلإنقاذ طرابلس ولبنان ولإنقاذ إخوة لقمان سليم وأخواته، لا بدّ من جبهةٍ وطنيةٍ كبرى أو جبهات تصرخ جميعاً في وجه السلاح، فإما أن نحيا جميعاً أو نموتَ جميعاً

كان لقمان على الدوام على عجلةٍ من أمره. وفي كل تحرّكاته ونشاطاته، ما كان يؤمن بإمكان أن يستطيع النظام اللبناني تجديد نفسه أو إصلاحها. ولذلك لا بديل عن  مواجهة “الحقيقة”، والحقيقة أنّه لا بدّ من إنقاذ الخمسة ملايين لبناني من هذا الأمل الذي لا شفاء منه: أمل أن يأتي فريقٌ أو دولةٌ لتخليص لبنان من الواقع الذي يتخبّط فيه. فاللبناني بنظره يعتبر دائماً أنّها حروب الآخرين على أرضه، والذي يستطيع إنشاب الحرب، يستطيع أيضاً إذا وجد مصلحةً له أن يعود فينشر السلم والأمن. وقد كانت وجهة نظره دائماً أن صناع الحروب في لبنان ومن حوله صنعتهم أو حرفتهم نزاعات الدم، أما السلم الحقيقي فينبغي أن يتعلم اللبنانيون صناعته بأنفسهم. وهم يستطيعون ذلك بالتأكيد، أو لا ترون أنّهم أسهموا ويسهمون في صنع السلم والتقدم حيثما حلُّوا في العالم، فلماذا لا يستطيعون صنعه في وطنهم؟! 

لقد شهدت الشهور الأخيرة ظواهر ومظاهر للأخطار المتوالية والمتجدّدة. وفي حين لا يمكن نسبة “الانهيار الشامل” إلاّ إلى المافيا المتحالفة مع الميليشيا، هناك الظاهرتان العائدتان: نشر الاضطراب في طرابلس، واغتيال لقمان سليم، أبرز المعارضين المثقفين والسياسيين للحزب وميليشياه المسلَّحة. فقبل شهور أنذرنا مصدر أمني كبير بإمكان عودة الاغتيالات، وإمكان عودة داعش. والطريف أنّه أخيراً وفي المقابلة نفسها التي دعا فيها إلى إحياء فكرة الاستراتيجية الدفاعية، أنذر بعودة داعش والاغتيالات. فما علاقة الاستراتيجية الميمونة بداعش وبالاغتيالات؟!

لماذا الاضطراب في طرابلس الآن؟ ثم لماذا قتل لقمان سليم بهذه الطريقة الفظيعة؟

كلّ المراقبين الأجانب واللبنانيين، توقّعوا لطرابلس الاضطراب، منذ صارت قلب ثورة تشرين. قالوا إنّه كما تعذّبت طرابلس بسبب الثورة السورية، التي تعاطفت معها وهو محرَّمٌ عليها، ستتعذب مع الثورة اللبنانية التي شاركت فيها بقوّة. وبالفعل وبعد شهورٍ قليلةٍ على اندلاع المظاهرات في أنحاء لبنان ومنها طرابلس، بدأت “العصابة المحترفة”، منذ اضطرابات 2010 – 2015، تُخرّب فيها. وبالطبع فإنّ الأجهزة اللبنانية المختلفة تعرف أفراد ومجموعات تلك العصابة والأطراف المستخدمة، وتستطيع إخمادها، لكنها لا تريد ذلك. هي لا تصنع الاضطراب، لكنها لا تمنعه ولا تحولُ دونه: فهل نذهب إلى أنّ أهل الاستراتيجية الدفاعية، هم المسؤولون؟ لو لم يكونوا كذلك لتدخلت الأجهزة ووضعت المنفلتين والمتلفتين في الاعتقال. الذين قُبض عليهم أدوات. وقد قالت السيدة سلمى مرشاق والدة لقمان: “إنّ الذين نفذوا عملية القتل أداة، أما المهم: من أرسلهم ومن نفّذ بواسطتهم”.

كان لقمان على الدوام على عجلةٍ من أمره. وفي كل تحرّكاته ونشاطاته، ما كان يؤمن بإمكان أن يستطيع النظام اللبناني تجديد نفسه أو إصلاحها. ولذلك لا بديل عن  مواجهة “الحقيقة”، والحقيقة أنّه لا بدّ من إنقاذ الخمسة ملايين لبناني من هذا الأمل الذي لا شفاء منه

وكذلك الأمر في طرابلس. فالذي بدأ تخريباً من جانب الفقراء والجائعين، سيستقدم بحسب المصدر الأمني (إن لم يكن قد فعل) داعشاً والقاعدة أيضاً. فالمطلوب الآن في طرابلس وعكار وعرسال وغيرها أن يتصاعد الاتهام بالإرهاب ليستعيد أهل الاستراتيجية الدفاعية مهمتهم الثانية التي صارت أولى: مكافحة الإرهاب. بذلك أقنعوا إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وأسهل عليهم الآن إقناع إدارة الرئيس جو بايدن. لأنّ استراتيجية الرئيس السابق دونالد ترامب في مكافحة الإرهاب الحقيقي نالت منهم بالفعل.

وجهة النظر هذه شاركني فيها من شهرٍ وأكثر لقمان سليم. ولا حلَّ إلاّ إذا حزمت القيادة السياسية للمسلمين أمرها ومنعت استخدام طرابلس لإرسال الرسائل والإفادة كما في كل مرّة. ولا أظنها ستفعل، وقد جربناها في مراتٍ سابقة.

لماذا اغتالوا لقمان اليوم وليس بالأمس؟

لسببين:

1 – علوّ صوته وتزايد تأثيره وسط تجرّؤ الشبّان في البيئة الشيعية على الثنائي في الثورة وفي الإعلام.

2 – والسبب الثاني: إنذار الأجانب من الفرنسيين والأميركيين أنّهم مسيطرون وليس من خلال النووي والصواريخ الدقيقة وحسْب، بل ومن خلال كواتم الصوت، والفتك الذريع: فعودوا للتعامل مع هذا “الوجه القبيح” أو يكون عليكم المغادرة قبل الوصول والعودة.

فلإنقاذ طرابلس ولبنان ولإنقاذ إخوة لقمان سليم وأخواته، لا بدّ من جبهةٍ وطنيةٍ كبرى أو جبهات تصرخ جميعاً في وجه السلاح، فإما أن نحيا جميعاً أو نموتَ جميعاً.

إقرأ أيضاً: هذا هو القاتل!

كان لقمان سليم صاحب مزاجٍ هادئ، وعزيمة لا تتزعزع، وسخرية حادّة. وقد عزَّى صديقاً له بموت أخيه قبل شهور ببيت المتنبي:

        إذا ما تأملْتَ الزمانَ وصرفَه        تيقنتَ أن الموتَ ضربٌ من القتْلِ

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…