يزور اليوم الرئيس المكلّف سعد الحريري القاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي. ومصر شريكة أساسية لفرنسا في مبادرتها، فهل يسعى الحريري لإعادة المبادرة الفرنسية إلى أصلها؟ أم أنّه يريد غطاءً عربياً لقبوله بالصيغة الفرنسية الجديد؟
وكان رئيس المخابرات الخارجية الفرنسية برنار إيمييه قد زار أبو ظبي بعد واشنطن، حيث التقى مدير الاستخبارات المركزية CIA وليام بيرنز، وهو صديقه منذ أن كانا سفيري بلادهما في عمّان. ومن ثمّ انتشرت أخبار عن زيارته القاهرة حيث يفترض أن يكون قد اجتمع برئيس المخابرات المصرية عباس كامل. وهو زار كذلك أبو ظبي، حيث التقى مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد.
فهل توصّل السفير إيمييه إلى تركيب صيغة جديدة ومشتركة بين واشنطن والقاهرة وأبو ظبي؟
حتى الآن لا جواب.
في هذا السياق يأتي التحرك المتجدد الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه لبنان قبل أيام، والذي قد يمنح باريس فرصة جديدة لإنقاذ مبادرتها وتحقيق تقدّم ملموس في لبنان.
معلومات فرنسية أكّدت لـ”أساس” أنّ الرئيس الفرنسي، ومنذ اتصاله بالرئيس الأميركي جو بايدن، وإعادة تفعيل مبادرته حول تشكيل الحكومة اللبنانية، أعطى لنفسه مهلة أسبوعين جديدين لتحقيق تقدّم وتبيان حقيقة مواقف القوى اللبنانية إذا كانت تريد تشكيل حكومة أم أنّ التعطيل سيستمرّ. والتحرك الفرنسي الجديد ينطوي على تقديم المزيد من التنازلات عن المبادرة الأساسية التي أطلقها ماكرون سابقاً.
عند إطلاق المبادرة كانت بنودها واضحة: تشكيل حكومة مصغّرة مؤلفة من اختصاصيين مستقلين غير حزبيين، على قاعدة المداورة الشاملة، مهمة الحكومة وضع خطّة إقتصادية إصلاحية جذرية، بعيداً عن الحسابات السياسية.
تعرّضت المبادرة الفرنسية بداية إلى ضربة إيرانية، من خلال موقف الثنائي الشيعي المتمسّك بوزارة المالية. رفض ماكرون بداية، لكنّه عاد وتنازل وأقنع الحريري بالموافقة على إعطاء وزارة المال لحركة أمل. فسقطت المداورة وخرجت شروط رئيس الجمهورية المطالبة بتسمية الوزراء المسيحيين، والتمسك بوزارة الطاقة والمطالبة بوزارات العدل والداخلية والدفاع.
وفق هذه القراءة فإنّ العقوبات الأميركية التي فرضت على الوزيرين على حسن خليل ويوسف فنيانوس، وفيما بعد على جبران باسيل، أدّت إلى عرقلة المبادرة الفرنسية.
الرئيس الفرنسي، ومنذ اتصاله بالرئيس الأميركي جو بايدن، وإعادة تفعيل مبادرته حول تشكيل الحكومة اللبنانية، أعطى لنفسه مهلة أسبوعين جديدين لتحقيق تقدّم وتبيان حقيقة مواقف القوى اللبنانية إذا كانت تريد تشكيل حكومة أم أنّ التعطيل سيستمرّ
في قراءة قوى الثامن من آذار، فإنّ السياسة الأميركية المتشدّدة حيال إيران أدّت إلى تعطيل المبادرة الفرنسية، وتعطيل مفاوضات ترسيم الحدود، ما دفع إيران إلى التشدّد أكثر، خصوصاً بعد خسارة دونالد ترامب الانتخابات.
حينها لم يكن حزب الله ومن خلفه إيران في وارد تقديم أيّ تنازل، وكان الرهان الأساسي على إدارة جو بايدن واحتمال الإنفتاح على طهران.
ضاعت المبادرة الفرنسية، إلى أن قرر ماكرون إعادة إطلاقها مجدداً، بانياً تصوره على الإتصال مع بايدن، وسعي الإدارة الأميركية الجديدة إلى إعادة تعزيز علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي ودول حلف الأطلسي.
راهن ماكرون على أنّ إدارة بايدن لن تكون متفرّغة لملفات الشرق الأوسط، فأراد الدخول من هذه البوابة لتعزيز حضوره ونفوذه. بعد التواصل الأميركي الفرنسي، باشر ماكرون سلسلة اتصالات مع قوى عربية وخليجية، في ظلّ تنسيق مستمرّ مع مصر، فيما حاول جاهداً مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، لتسهيل عملية تشكيل الحكومة، في حال رفضتا المشاركة في دعم لبنان.
بعد ضياع المبادرة، وإعادة تجديدها، لا بدّ من تسجيل وقائع جديدة، باعتراف ماكرون الذي أعلن أّن المهم تشكيل حكومة وإن لم تكن مكتملة المعايير، وهو تراجع فرنسي جديد على أعتاب القوى السياسية اللبنانية وحساباتها. فتلك المعايير غير المكتملة، تعني سقوط مبدأ المداورة، وتسمية القوى السياسية وزراءها، وسط محاولة فرنسية للتدخل في تسمية وزراء اختصاصيين لتولّي وزارات الأشغال، العدل، الطاقة، والمالية.
لهذا التحرك المتجدّد جملة مؤشرات، وقراءات متعدّدة للخطوة الفرنسية.
ضاعت المبادرة الفرنسية، إلى أن قرر ماكرون إعادة إطلاقها مجدداً، بانياً تصوره على الإتصال مع بايدن، وسعي الإدارة الأميركية الجديدة إلى إعادة تعزيز علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي ودول حلف الأطلسي
فالمحسوبون على قوى 8 آذار، يعتبرون أن الخطوة الفرنسية الجديدة لا يمكن أن تمر بدون اتفاق مع إيران، وبالتالي يفكّرون في إمكانية أن يفرضوا المزيد من الشروط، والدليل تنازل ماكرون مجدداً عن المعايير المكتملة. هذه القراءة تتفرع منها نقاط عديدة:
1 – مطالبة رئيس الجمهورية برفع عدد وزراء الحكومة من 18 إلى 20 بالحدّ الأدنى، فهو يريد التمسك بالثلث المعطل بشكل غير مباشر من خلال وزير درزي وآخر كاثوليكي.
2 – أن تكون الحكومة تكنوسياسية وليست مؤلفة من اختصاصيين غير حزبيين.
3 – حصر وزراء الإختصاص بأربع وزارات هي: المالية، الأشغال العامة والنقل، الطاقة، والإتصالات.
4 – يحصل عون على وزارة الداخلية يتم اختيار شخصية توافقية غير مستفزّة لها.
5 – يحصل سعد الحريري على وزارة العدل بتسمية وزير توافقي.
قراءة هذه القوى تستند إلى تحليلها للاتصالات التي اجراها ماكرون مع واشنطن، طهران، الرياض، أبو ظبي. على قاعدة أن لا مخرج للازمة إلا وفق هذا التصوّر.
في المقابل، هناك رواية القوى المحسوبة على 14 آذار، التي لا تزال تراهن على الموقف الأميركي والخليجي في رفض تقديم مثل هذه التنازلات لإيران وحزب الله، وبالتالي عون. يعتبر هؤلاء أن لا مقومات لنجاح المبادرة الفرنسية إلا في حال عادت إلى أساسها، وهذا السبيل الوحيد لتوفير غطاء أميركي وخليجي لأي حكومة. يخلص هؤلاء في قراءتهم إلى الاحتمال التالي:
1 – تشكيل حكومة مهمة مصغرّة.
2 – لا يحصل أيّ طرف على الثلث المعطل.
3 – يتمثل حزب الله في هذه الحكومة بوزيرين غير حزبيين.
4 – يكون الوزراء المعيّنون في هذه الحكومة اختصاصيون بإشراف فرنسي.
كل طرف يحاول استمالة الجو الدولي إلى جانبه. موقف الرئيس نبيه بري برفض إعطاء الثلث المعطل لأي طرف، ترى قوى محسوبة على الحريري وجنبلاط أنّه يصب في صالحهم بمواجهة عون، ويعتبرونه موقفاً متقدماً، لكن له خلفيات سياسية أيضاً وهي تقديم صورة شيعية متساهلة مع المبادرة الفرنسية، سواء نجحت المبادرة أم استمرت عرقلتها. ولذلك أصرّ برّي على التأكيد بأنّ العرقلة هي داخلية وليس خارجية لإبعاد أي شبهة حول الموقف الإيراني. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الموقف الإيراني من المبادرة الفرنسية انقسم إلى ناحيتين:
– موقف ترحيبي بهذه المبادرة، خصوصاً أن إيران ترى في الدور الفرنسي عاملاً مساعداً لها، لا سيما أنّ باريس تتعاطى بواقعية مع النفوذ الإيراني وموقع حزب الله.
– موقف هجومي تجاه الموقف الفرنسي، خصوصاً عندما دعا ماكرون للعودة إلى مفاوضات النووي مجدداً والبحث في الصواريخ البالستية. وهو موقف متشدّد حيال إيران، بالإضافة إلى دعوة ماكرون لإشراك المملكة العربية السعودية في أيّ مفاوضات حول الإتفاق النووي. هذا الموقف استدعى ردّاً إيرانياً عنيفاً رافضاً.
هناك رواية القوى المحسوبة على 14 آذار، التي لا تزال تراهن على الموقف الأميركي والخليجي في رفض تقديم مثل هذه التنازلات لإيران وحزب الله، وبالتالي عون. يعتبر هؤلاء أن لا مقومات لنجاح المبادرة الفرنسية إلا في حال عادت إلى أساسها
تريد إيران الموازنة بين الموقفين. همّها تشكيل حكومة ترعى مصالحها ومصالح حلفائها في لبنان، ولا تتجاوز تمثيلهم. وقناعة الإيرانيين والحلفاء أنّ المدخل لنجاح المبادرة الفرنسية هو الإتفاق مع إيران ورعاية مصالحها، وبالتالي هم يعتبرون أنّ أي حكومة ستأتي لن تتعارض مع مصالحهم، وستكون إدارتها بين يدي حزب الله، الذي يحتفظ بعلاقة جيدة بالرئيس المكلف وبرئيس الجمهورية في وقت واحد.
أما في حال استمرّ التعطيل، فستبقى إيران قادرة على إدارة الدفة اللبنانية عبر حكومة حسان دياب، وانتظار حصول أي تطوّر مع الأميركيين، من شأنه أن يحفظ لها على مكتسباتها، خصوصاً أنّها لا تمتلك ورقة الحكومة فقط، إنّما ورقة ترسيم الحدود.
وحتى عندما أعلن الرئيس نبيه بري موقفه، الذي تلازم مع تسريب معلومات عن موقف حزب الله الرافض لإعطاء الثلث المعطل لرئيس الجمهورية، كانت تلك إشارة إيرانية جديدة بأنّها صاحبة القرار السياسي في لبنان تسهيلاً ام تعطيلاً.
إقرأ أيضاً: المبادرة الفرنسية تُبعث من جديد… الثالثة ليست ثابتة؟
السياق الأوسع من المبادرة الفرنسية حول تشكيل الحكومة، هو ما يمكن أن يؤسّس له هذا التشكيل للمرحلة المقبلة. فتشكيل حكومة وحده لا يكفي، هناك جملة ملفات ترتبط ببعضها البعض بعد عملية التشكيل:
1 – الإتفاق على وضع خطة إقتصادية شاملة.
2 – هل سيكون هناك اتفاق على التدقيق الجنائي وغيره من الملفات القضائية القابلة لتفجير أيّ اتفاق؟
3 – بعد تشكيل الحكومة هناك جملة ملفات سياسية ستكون مطروحة، أبرزها ترسيم الحدود، وارتباط هذا الملفّ بتطورات العلاقة الإيرانية الأميركية، وبأبعاده على أمن إسرائيل.
4 – مجرد الحديث عن أمن إسرائيل سيفتح البحث في مسألة الصواريخ الدقيقة لدى حزب الله، وإبعادها عن منطقة جنوب لبنان.
5 – ستكون هناك أسئلة أساسية مطروحة حول دور اليونفيل أيضاً في تعزيز هذا الأمن والإستقرار.
الطريق طويلة… طويلة جداً.