يبدو أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماركون لم يتعلّم من درس الزيارتين المتتاليتين اللتين قام بهما إلى بيروت في أعقاب انفجار الرابع من آب الماضي، حين حاول إيجاد موطىء قدم لبلاده في منطقة الشرق الأوسط التي تستعدّ لجولة جديدة من رسم خرائط وساحات النفوذ، من البوابة اللبنانية، وذلك عبر مبادرة إدارته الموثقّة ببنود واضحة ضمن جدول زمني محدّد.
خلال الزيارتين استخدم في مخاطبة السلطة اللبنانية تعابير لم يسبق لرئيس دولة، في التاريخ الحديث، أن استخدمها في حقّ دولة أخرى: “أشعر بالخجل من المسؤولين اللبنانيين الذين خانوا التزاماتهم نحو فرنسا والأسرة الدولية”، و”هناك زمرة من الأشخاص تقدم على إنهاء بلد برمّته”، و”السلطات اللبنانية ترتكب خيانة جماعية”، و”سلوك جعل لبنان رهينة التحالف بين الفساد والإرهاب”.
في المرّتين، لم يتمكن ماكرون من فرض روزنامته وجدول شروطه، للإفراج عن لبنان من حبسه المالي والاقتصادي، على المنظومة السياسية التي تدرك جيدا أنّ السير بالورشة الإصلاحية التي تريدها باريس من شأنه أن يقلّص المساحة الانتفاعية التي تؤمنها مزاريب الهدر والفساد. ولذا لا تزال تلك المنظومة، ولحسابات مختلفة، تتواطأ ضمنياً وتحارب كي لا تأتي مقصلة المبادرة الفرنسية على حساب مصالحها.
ثمة من يعتقد أنّ التقاطع الإقليمي حول الملف اللبناني وحده الذي قد يملي على العهد التخلّي عن هذا الشرط. خصوصاً مع قناعة باسيل بأنّ الحريري قد يتنازل عاجلاً أم، وإن كانت المؤشرات كلّها تدلّ على أن تصلّب الأخير ليس نابعاً من تعنّته أو عناده وإنّما لإدراكه أنّ الثلث المعطل هو خطّ أحمر لن يُسمح لباسيل بتخطيه
لكنّ ماكرون لم ييأس بعد. ها هو يعيد إيقاظ مبادرته من سباتها مؤكداً على أنّها لا تزال البوابة الوحيدة المتاحة دولياً لإنقاذ لبنان من الانفجار الكبير والانهيار الشامل. وأعلن أنّه سيقوم بزيارة ثالثة إلى لبنان “بعد التحقّق من أمور أساسية، وسنفعل كلّ شيء لتشكيل حكومة في لبنان حتّى لو كانت غير مكتملة المواصفات”. وأضاف: “خارطة الطريق الفرنسية ما زالت على الطاولة ولا حلول غيرها”.
اللافت أنّ هذا الكلام الواضح والصريح جاء في أعقاب الاتصال الأول بين الرئيس الفرنسي ونظيره الأميركي جو بادين. وفق بيان الإليزيه، كان الملف اللبناني على طاولة البحث الهاتفي بين الرجلين. إذ أشار البيان إلى “تقاربهما واستعدادهما للعمل سوياً من أجل السلام والاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط، لا سيّما بشأن الملف النووي الإيراني والوضع في لبنان”. واتفق الرئيسان على البقاء على اتصال وثيق للغاية في الأسابيع المقبلة، بشأن هذه الموضوعات، وعلى جدول أعمالهما المشترك بأكمله.
وبالفعل، لم تمض ساعات قليلة على الاندفاعة الفرنسية المتجددة على وقع المتغيّر الأميركي في هوية سيد البيت الأبيض، حتى تلقّى رئيس الجمهورية ميشال عون اتصالاً هاتفياً من ماكرون، وتداول معه في الأوضاع الرّاهنة وما آل إليه مسار تشكيل الحكومة العتيدة. وقد جدّد الرئيس الفرنسي التأكيد على “وقوف بلاده إلى جانب لبنان في الظروف الراهنة التي يمرّ بها، ومساعدته في مختلف المجالات لا سيّما في ما يتعلق بالملف الحكومي”.
ماكرون لم ييأس بعد. ها هو يعيد إيقاظ مبادرته من سباتها مؤكداً على أنّها لا تزال البوابة الوحيدة المتاحة دولياً لإنقاذ لبنان من الانفجار الكبير والانهيار الشامل. وأعلن أنّه سيقوم بزيارة ثالثة إلى لبنان “بعد التحقّق من أمور أساسية
ماذا تعني هذه الخطوات الثلاث وفق اللبنانيين المتابعين للاتصالات اللبنانية – الفرنسية؟
بداية يشير هؤلاء إلى أنّ الإدارة الفرنسية اكتسبت من تجربتيْها الماضيتين في الملف اللبناني، حصانة تسمح لها بالانطلاق في التجربة الثالثة بخطىً واثقة. وهي على الأرجح نجحت في الحصول على تفويض أميركي ضمن خطوط حمراء وضعتها الإدارة الجديدة لكي تسعى باريس إلى تهدئة الوضع في لبنان ومنع انفجاره بشكل قد يثير الفوضى، خصوصاً بعد الخطوة الإيجابية التي سّجلتها واشنطن في سياق صراعها مع طهران من خلال تعيين روبرت مالي، الدبلوماسي المرن جداً، مبعوثاً خاصاً للإدارة الأميركية إلى ايران.
وفق هؤلاء فإنّ باريس بدأت حراكها في الملف اللبناني من خلال اتصالات إقليمية شملت بشكل خاصّ إيران ودول الخليج في محاولة للتفاهم على قواعد المرحلة المقبلة، قبل أن تشمّر الإدارة الفرنسية عن ساعديها لتغرق من جديد في الوحول اللبنانية.
ويضيف هؤلاء أنّ الاتصال الرئاسي هو الأوّل ضمن سلسلة اتصالات ستقودها باريس مع القوى اللبنانية، ولو أنّ التواصل على المستوى الشخصي لم ينقطع أبداً مع بعض المسؤولين اللبنانيين منهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وبعض المسؤولين الفرنسيين. لكن هذه المرة ضمن أجندة واضحة: تحريك مياه الحكومة الراكدة.
ويكشف هؤلاء أن الاتصال الرئاسي بيّن بوضوح أنّ ماكرون على اطّلاع مفصّل على العقد التي تحول دون ولادة الحكومة، وعلى بيّنة من الخلافات التي تجعل طريق التواصل بين بعبدا وبيت الوسط مقطوعة.
ويشيرون إلى أنّ الثلث المعطل الذي يطالب به العهد ومعه رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل هو أكثر الألغام صعوبة على التفكيك، ولو أنّ عون وباسيل يعرفان جيداً أنّه مطلب تعجيزي لأنّهما لن يجدا أي دعم أو مساندة لا من جانب الحليف “حزب الله”، ولا من جانب الصديق الفرنسي، لتحقيقه، لأنّ أيّاً من القوى المعنية بالملف اللبناني لن تسمح بمنح باسيل قدرة على تعطيل الحكومة، سواء راهناً أو مستقبلاً.
ولهذا ثمة من يعتقد أنّ التقاطع الإقليمي حول الملف اللبناني وحده الذي قد يملي على العهد التخلّي عن هذا الشرط. خصوصاً مع قناعة باسيل بأنّ الحريري قد يتنازل عاجلاً أم، وإن كانت المؤشرات كلّها تدلّ على أن تصلّب الأخير ليس نابعاً من تعنّته أو عناده وإنّما لإدراكه أنّ الثلث المعطل هو خطّ أحمر لن يُسمح لباسيل بتخطيه.
إقرأ أيضاً: تشكيل الحكومة: طهران لن تقدّم هدايا مجانية للبنانيينّ
هكذا، قد تتحوّل أجهزة التدقيق خلال الأيام القليلة المقبلة باتجاه الضاحية الجنوبية لرصد مواقف “حزب الله” من الملفّ الحكومي، وما إذا كان فعلاً سيعطي ضوءاً أخضر واضحاً للانطلاق من جديد في مشاورات حكومية جديّة، يفترض أن تكون على قاعدة 18 وزيراً، لا ثلث معطلاً فيها لأي طرف…