من العبارات الشائعة في لبنان واحدة تقول إنّه “لمعرفة ما يجري في بيروت يجب معرفة ما يجري في العراق”. استناداً إلى ما جرى في الخمسينات من سقوط الحكم الملكي في العراق وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً بعد عملية إنزال للقوات الأميركية على شاطئ الأوزاعي وإنهاء ثورة 58 التي قام بها “الناصريون” في مواجهة حلف بغداد الأميركي – الإيراني الداعم لكميل شمعون في لبنان والملك فيصل الأوّل في بغداد.
الأكيد أنّ عبارة الربط بين البلدين تصلح الآن بالنظر إلى تأثّر كلّ من بيروت وبغداد بالمتغيرات الإقليمة والدولية مع بدء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، خصوصاً أنّ البلدين يقعان تحت نفوذ إيراني مباشر.
هذه المتغيّرات تعزّز اليقين بأنّ الاستعصاء المتواصل لتشكيل الحكومة اللبنانية عائدٌ بالدرجة الأولى إلى أسباب إقليمية / دولية، لا محلية، من قبيل توتّر العلاقة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري. من يقول غير ذلك فهو إمّا لا يعرف الواقع اللبناني جيّداً وإمّا يتهرّب من الاعتراف بحقيقة وقوع البلد تحت النفوذ الإيراني المباشر، وهو ما عبّرت عنه طهران نفسها مراراً وتكراراً.
من العبث البحث عن العقد الداخلية في تشكيل الحكومة كما لو أنّها الحائل الأساسي دون هذا التشكيل، إلّا إذا كان رصد هذه العقد المحلية هدفه استنباط مقدار التشدّد أو اللين الإيراني في ملف تأليف الحكومة الذي يعدّ أحد الأوراق الرئيسية التي تستخدمها طهران في مسار مواجهتها مع “الشيطان الأكبر” في سبيل تحسين شروط المفاوضات معه.
عبارة الربط بين البلدين تصلح الآن بالنظر إلى تأثّر كلّ من بيروت وبغداد بالمتغيرات الإقليمة والدولية مع بدء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن، خصوصاً أنّ البلدين يقعان تحت نفوذ إيراني مباشر
لذلك فإنّ تقصّي احتمالات تأليف الحكومة من عدمه يتطلّب قراءة متأنية للمشهد الإقليمي والدولي، وتحديداً في ما يتّصل بتطوّرات الملف النووي الإيراني بعد إعلان الإدارة الأميركية الجديدة نيّتها العودة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015 والذي خرج منه الرئيس السابق دونالد ترامب في العام 2018.
إعلان بايدن ووزير خارجيته انطوني بلينكن نية الإدارة الجديدة العودة إلى هذا الإتفاق لا يعني أنّ هذه العودة يسيرة وسريعة. وهو ما أكّده بلينكن نفسه عندما قال في جلسة الاستماع أمام مجلس الشيوخ الأميركي إنّ “أمام الإدارة الديموقراطية طريقاً طويلة للتوصّل إلى اتفاق مع طهران، أطول وأقوى”.
إذاً فمسألة التوقيت حاسمة جدّاً في مسار انطلاقة المفاوضات الأميريكية الإيرانية لإحياء الاتفاق النووي، لا لناحية موعد انطلاقته وحسب، بل كذلك لناحية الوقت الذي سيستغرقه للتوصّل لاتفاق بين الطرفين. وهذا ما يفسّر التصعيد الإيراني المكثّف راهناً، سواء في الملف النووي ذاته لجهة مواصلة خرق طهران بنود الاتفاق الأصلي، لاسيما برفعها درجة التخصيب إلى 20 في المئة، أو في استئناف ايران عبر أذرعها في المنطقة أعمالها العدائية ضدّ المملكة العربية السعودية (وفي الوقت نفسه تقدّم عروضاً للحوار معها!). وكذلك قصف السفارة الأميركية في بغداد، بعدما كانت ميليشيات الحشد الشعبي قد أعلنت قبل انتخاب بايدن تعليق هذا القصف. وقد استدعى هذا التصعيد العسكري الإيراني تحليق أوّل قاذفة أميركية فوق منطقة الخليج، الأربعاء، في رسالة مباشرة إلى طهران.
كذلك يطرح سؤال أساسي عمّا إذا كانت المفاوضات الأميركية الإيرانية ستبدأ بعد الانتخابات الإيرانية في حزيران المقبل أم قبلها، مع ترجيح الفرضية الأولى بالنظر إلى أنّ دنوّ موعد هذه الانتخابات يجعل الأفرقاء الإيرانيين أكثر تشدّداً لكي لا يتهمّ أيّاً منهم الآخر بالتنازل أمام “العدو”.
لكنّ مسألة التوقيت ليست الوحيدة التي تفرض نفسها على مسار المفاوضات تلك، بل هناك مضمون هذه المفاوضات ومراحلها. إذ لا يزال الغموض يكتنف نقطة أساسية في المقاربة الأميركية الجديدة للملف النووي الإيراني. تتمثّل هذه النقطة – السؤال في ما إذا كانت ادارة بايدن تريد العودة إلى الاتفاق السابق أولاً والانطلاق منه نحو اتفاق جديد يعيد التفاوض على بعض بنود اتفاق 2015 ويشمل ملفي الصواريخ البالستية الإيرانية والتوسّع الإيراني في المنطقة ونفوذها في الدول العربية، أم أنّها ستدمج المسارات التفاوضية كلّها منذ البداية للتوصّل إلى اتفاق نهائي جديد.
في المقابل ترفض إيران التفاوض حول هذين الملفين، كما تشترط رفع العقوبات التي فرضها ترامب عليها وذلك قبل العودة إلى اتفاق 2015. وهنا من غير المعلوم مدى استعداد إدارة بايدن وقدرتها على القبول بهذا الشرط خصوصاً أنّ بعض تلك العقوبات متّصل بدعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. كذلك قال بلينكن إنّ واشنطن ستُشرك حلفاءها في المنطقة في أي مفاوضات مقبلة مع طهران، و”في مرحلة الإقلاع لا الهبوط”، وهذا أمرٌ ترفضه طهران أيضاً.
كلّ هذه التطورات والاحتمالات والمعقّدة المتشعبة متّصلة اتصالاً وثيقاً بالملف الحكومي اللبناني إلى حدّ يجعل من المستحيل توقّع تشكيل حكومة في لبنان بمعزل عن منعرجاتها ومآلاتها. وحتّى المبادرة الفرنسية في حال أرادت باريس إنعاشها فهي رهن أيضاً بتطورّات الملف النووي الإيراني. وليس قليل الدلالة تذكير وزير الخارجية الإيراني الذي يستعيد الآن مناوراته الديبلوماسية نظيرَه الفرنسي منذ نحو أسبوع بـ”المبادرة الفرنسية التي ولدت ميتة”. كأنّه يقول له: أنتم لا تستطيعون فعل أي شيء في بيروت من دون موافقتنا.
لا يزال الغموض يكتنف نقطة أساسية في المقاربة الأميركية الجديدة للملف النووي الإيراني. تتمثّل هذه النقطة – السؤال في ما إذا كانت ادارة بايدن تريد العودة إلى الاتفاق السابق أولاً والانطلاق منه نحو اتفاق جديد
طهران لن تقدّم هدايا مجانية للبنانيين أياً يكن مقدار حاجتهم لتشكيل حكومة. فأولويتها الآن تجميع ما أمكنها من أوراق قوّة قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الأميركيين، وبالتالي هي لن تفرّط بالورقة اللبنانية من دون قبض ثمنها في المقابل: فهل تستطيع فرنسا أن تدفع لها هذه المرّة بعدما عجزت عن ذلك طيلة الفترة الماضية؟
ما تمّ الإعلان عنه حتى الآن عن اتصال ماكرون – بايدن غير كافٍ للبناء عليه. كما أنّ التصعيد الإيراني المتزايد بهدف اختبار حدود ردود إدارة بايدن لا يشي بإمكان حدوث اختراقات سياسيّة في بيروت. مع ذلك لا يمكن إسقاط احتمال أن يسلك المسار الحكومي في لبنان طريقاً مختلفة، لاسيّما إذا استطاع حزب الله والعهد تشكيل حكومة تناسبهما.
إقرأ أيضاً: باسيل ينتظر “استسلام” الحريري: أمل إبليس بالجنّة
لكنّ الاحتمال الأخير يبقى شديد التأرجح، خصوصاً في ظلّ تأكيد أوساط قياديّة في حزب الله أنّ لا حكومة إلّا كما يريدها جبران باسيل. وهذا موقف يتجاوز مسألة التضامن مع نائب البترون المعاقب أميركياً، إذ يعكس تشدّد الحزب ومن ورائه إيران في ملف الحكومة ربطاً بالأولويات الإيرانية المذكورة أعلاه.
في المحصّلة فإن الأساس في استعصاء تأليف الحكومة ليس خلاف عون والحريري بل إمساك طهران بمفاتيح هذا التأليف. فإذا شاءت حلّت العقد الحكومية تباعاً وأبصرت الحكومة النور. وفي الوقت الضائع يستفيد العهد من خلافه مع الحريري لاستنهاض كوادره اليائسين. في المقابل يتمسّك الحريري بورقة تكليفه بوصفها سلاحه الوحيد في المعركة كما تجنّبه حرج إعادة التموضع السياسي التي لا يريدها. لكنّ كلاهما، أي العهد والحريري، يتطلّعان إلى حزب الله ويراهنان على المفاوضات الإيرانية – الأميركية. ومن يدري ربّما سيطلب العهد من طهران أن لا تنسى في مفاوضاتها مع واشنطن العقوبات على باسيل.