تتخذ المعركة التي يشنّها رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار الوطني الحرّ ضد الرئيس سعد الحريري أبعاداً متعددة. تتشعب الملفات التي يثيرها عون ضد الرئيس المكلف، فلم تعد محصورة في خانة الصراع على الصلاحيات أو بالتجاذب القائم حول التحاصص الحكومي، إنما تأخذ مفترقات كثيرة، قضائية، مالية، سياسية وملفات فساد.
يعتمد عون استراتيجية واضحة تؤكد رفضه أن يترأّس الحريري الحكومة. وهو اتّبع هذه الإستراتيجية منذ اليوم الأول للتكليف. بعد كل زيارة إلى بعبدا، كان عون يقول أمام أوساطه والمقربين منه: “دعوا زياراته تتكر، ففي كل زيارة سأجلعه يرمي ورقة من يده”. كانت هذه إشارة عونية إلى اعتماد مبدأ “خُذ وطالب”.
13 زيارة حريرية إلى القصر الجمهوري، راكم خلالها عون جملة نقاط، انطلق فيها من موقف إيجابي للحريري في البداية إذ قاله له إنّه يريد التعاون معه وهناك بوادر كثيرة للتوافق. هذا الموقف دفع الرئيس إلى تصعيد مواقفه وزيادة منسوب مطالبه، وصولاً إلى حدّ المطالبة بوزارات الدفاع والداخلية والعدل.
كانت الاستراتيجية واضحة وهي حرق الأعصاب واستخدام لعبة النفس الطويل. إلى أن فشلت كل المساعي والمبادرات. والنتيجة حالياً أنّ الاتصالات تجمّدت، بانتظار أن يبادر رئيس تيار المستقبل إلى زيارة بعبدا، لكن من دون أي مبادرة تصحّح خطيئة الفيديو المسرّب. وعند أي زيارة سيتقدم عون بطروحات تعيد المفاوضات إلى نقطة الصفر، وسيثير مشكلة حجم الحكومة، ويطالب بتوسيعها، وسيعيد فتح مسألة توزيع الحقائب.
يعتمد عون استراتيجية واضحة تؤكد رفضه أن يترأّس الحريري الحكومة. وهو اتّبع هذه الإستراتيجية منذ اليوم الأول للتكليف
الاستراتيجية نفسها، يطبّقها عون في ملفات أخرى مع الحريري إلى جانب خصومه الآخرين، في إثارة الملفات الواحد تلو الآخر. مثل اختيار توقيت ادّعاء القاضية غادة عون على حاكم مصرف لبنان، بعد فتح ملف قضائي في سويسرا. وهي حملة ستستمر في المرحلة المقبلة، وتتوسع، ولن يكون الحريري بعيداً عنها، لا بملفات الهندسات المالية ولا بملفات أخرى، ولا حتى بمسألة تفجير المرفأ. الأمر نفسه ينطبق على استراتيجية عون في مواجهة الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط، من خلال إثارة المزيد من الملفات القضائية أو الإحتجاجات الشعبية.
لكن يظهر الحريري حتّى الآن وكأنّه الطرف الأضعف في هذه المعادلة، لأنّه يضع نفسه في خانة رفض المواجهة طالما أنّه رئيساً مكلّفاً للحكومة. يستثمر عون في التحركات الحاصلة في المناطق السنية، من طرابلس إلى بيروت وخلدة والبقاع، هو يتهم صراحة الحريري في إثارتها، ويقول في أوساطه، إنّ للحريري أهدافاً عديدة من خلال إثارة هذه التظاهرات. وقد أعلن باسيل اليوم أنّ “تحريك الشارع المعروف الانتماء والتمويل لن يحمي منظومتكم السياسية والمالية”، في إشارة إلى الحريري. مضبطة اتهام عون للحريري تعتمد على 3 نقاط:
أولاً: يتهم عون الحريري باستخدام الشارع لأجل تعزيز موقعه الشعبي اعتقاداً بأنّه الزعيم السنّي الأوحد ويريد تصريف هذه التحركات والاحتجاجات في خانة الضغط لتشكيل حكومة كما يريدها، وإجبار الجميع على إرضائه خوفاً من تفلت الشارع أو هز الإستقرار.
ثانياً: يعتبر عون أن الحريري ومن خلال تحريك التظاهرات، يريد حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وإشاحة النظر عن الملفات القضائية التي فتحت بوجه الحاكم، وبالتالي تحويل الإهتمام عنها إلى الشارع وتطوراته وما يجري فيها.
ثالثاً: يرى عون أن الاحتجاجات في المناطق السنية، تهدف إلى الدفاع عن الحريري في حال فتحت بوجهه ملفات قضائية لها علاقة بأمور فساد أو ملفات مالية أو المرفأ، وهو يريد أن يستبق أي خطوة من هذا النوع، في سبيل منع إثارة أي ملف من هذه الملفات والاحتماء بالشارع.
يتهم عون الحريري باستخدام الشارع لأجل تعزيز موقعه الشعبي اعتقاداً بأنّه الزعيم السنّي الأوحد ويريد تصريف هذه التحركات والاحتجاجات في خانة الضغط لتشكيل حكومة كما يريدها
هذا الكلام يقود إلى خلاصة واحدة: أنّ رئيس الجمهورية يريد إلباس تهمة إثارة التحركات إلى الحريري، وكأن لا فقر ولا جوع ولا عوز في لبنان. وهي استراتيجية الأنظمة في التهرّب من حقوق شعوبها، فتحيل التحركات إلى مؤامرات ومكائد يتم نسجها.
نبرة اتهام الحريري بالاستثمار في هذه التحركات ستتصاعد أكثر فأكثر، وليس مستبعداً أن تعمل جهات متعددة إلى اختراق التحركات لحرفها عن مسارها، ووضعها في وجهة سياسية تؤدي إلى إحراج الحريري أكثر وتحميله مسؤولية اهتزاز الإستقرار. والحريري كان تنبّه وسارع في تغريدة أمس الأوّل إلى التبرّؤ والتحذير. وهو ما اعتبرته وسائل إعلام ممانعة “إشارة إلى شقيقه بهاء”.
إقرأ أيضاً: الرؤساء الثلاثة اجتمعوا بجنبلاط.. ماذا عن الحريري؟
ولاستكمال مخطط عون لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الخوف من حصول عمليات أمنية تستغلّ هذه التظاهرات. عندها يفترضون أن يعود رئيس الحكومة المكلف إلى لازمته في السياسة، وهي أنّه يريد تقديم التنازل حفاظاً على الاستقرار وحرصاً على البلد. فيدفع الثمن مجدداً شعبياً وسياسياً، ويكون لعون ما أراد فرضه من شروطه.
هنا لا بد من تذكر جملة قالها جبران باسيل قبل فترة في إحدى جلساته، إنّه “في لعبة عضّ الأصابع يكون الحريري الخاسر الأكبر كما تفيد التجربة”. وإنه ينتظر “أسبوعين أو ثلاثة حتى يقدم الحريري تنازله”. هذه الجملة تفسّر الكثير من العقلية العونية، ومن كيفية الإستثمار في كل ما يجري.
نظرياً ما يقوله باسيل صحيح استناداً إلى “تاريخ” العلاقة بينه وبين الحريري. لكن عارفي الحريري يقولون أنّ “التاريخ”معه لم يعد المقدّر، بل هي الجغرافيا السياسية التي تحاصره عربياً ودولياً وقبل ذلك داخل بيئته. لذلك فإن استسلامه لباسيل وشروطه هو “أمل إبليس بالجنّة”.