أكنّ العداء وأحمل في صدري كرهاً للمسلسلات التركية التي تتابعها أم زهير. فبسبب هذه المسلسلات تحرمني “إم الزوز” من مشاهدة التلفزيون كل مساء، فأقف عاجزاً أمام تسلّط وبطش هذه المرأة، أعانني الله عليها وعلى كِبَرها و”تشبّصها” برأيها وقلّة حيلتها. ولهذا أتّخذ زاوية من المنزل أجلس على كنبتي المفضلة، وألتف ببطانية (أهداني إياها نائب سابق، طيّب الله ذكراه)، وأضع راديو الترانزيستور على أذني لأسترق بواسطة ما تبقى لي من حاسة السمع، بضع كلمات من نشرات الأخبار على ترددّ AM.
فتلك الخشّة التي تصدر من هذا المذياع الصغير والممزوجة مع صوت المذيع يعيداني إلى حقبة الـOTR التي تُعرف لدى “الغرب الكافر” بالـ Old-time Radio أو الزمن الذهبي للراديو الذي اندثر في الخمسينيات بعد شيوع التلفزيون أو “الشيطان” مثلما كانت تحبّ أن تسميه أمي رحمها الله.
أي نَعَم كانت حقبة ذهبية في الغرب، لكنّها لم تخلُ في لبنان من المأساة والحروب الأهلية البغيضة، وعلى الرغم من ذلك كله أرى أنّها كانت أفضل بكثير ممّا نمرّ به اليوم!
قبل أسبوع، كنت أستمع إلى إذاعة “مونت كارلو”، فمرّ خبر نفي الخارجية السورية للقاء النظام السوري المزعوم مع وفد العدو الإسرائيلي الغاشم في قاعدة حميميم الروسية، فضحكت في سرّي وعادت بي الذاكرة إلى كارمن، بائعة الهوى في السوق العمومي الذي كنّا نقصده خلسة ومرّة كل شهر، ونرتعب في كل زيارة للسوق من الفضيحة في حال لمحنا أحد من أهل الحيّ هناك، مع أنّ كل من هم هناك “في الهوى سوا” لا يقصدونه بهدف التعبد، بس كنا مساطيل… أووووو على هيديك الأيام يا أبا زهير!
تلك الخشّة التي تصدر من هذا المذياع الصغير والممزوجة مع صوت المذيع يعيداني إلى حقبة الـOTR التي تُعرف لدى “الغرب الكافر” بالـ Old-time Radio أو الزمن الذهبي للراديو الذي اندثر في الخميسنات بعد شيوع التلفزيون أو “الشيطان” مثلما كانت تحبّ أن تسميه أمي رحمها الله
كارمن تلك، كانت أميرة السوق العمومي وكنا نتوق للقياها ونحلم بالبقاء في حضنها أو في صحبتها ولو لمرة واحدة. كانت بيضاء الوجه صافية نقيّة تسرّ النفس، دعجاء ذات عيون عسلية متسعة كعيون المها، كبيرة المقل رمشها كثيف، سميكة الحواجب مرتفعة مقوّسة.
أنف كارمن نحيل صغير متناسق ومقدمته مرفوعة من الأمام، أما أسنانها فبيضاء مرسومة تزيّن الفم (زيتونة سمايل، لم يكن هناك هوليوود سمايل بعد)، والشفاه وردية منتفخة “رباني” بلا أي جهد من نادر صعب ولا من أترابه. أما شعرها يا سلام، فكثيف منسدل أدهم شديد السواد غربيب مثل شعر “حليمة الغسانية”، وقوامها ممشوقة فارعة متخصّرة ذات أرداف خفيفة، واليدان ناعمتان طويلتان نقية بأظافر متناسقة ومقوسة، تتهادى في مشيها مقتصدة مثل مشية “بِرّة بنت سعيد الأسود” واثقة في خطاها لكنّها بخيلة في السلام.
إقرأ أيضاً: حبل الكذب “أورانج” وصاحب الحاجة أرعن
نختزن أنا وأترابي بصورة لكارمن في الذاكرة. فكارمن بقيت حلماً يدغدغ رغبة الجميع في الوصال، لكنّ الخوف منها ومن سحر جمالها ومن الفضيحة كان أقوى على الدوام… وهكذا هو النظام السوري في حضرة إسرائيل أو في حضرة “كارمن الشرق الأوسط” التي يتوق الجميع للقياها ويخاف ويأبى ويتنكّر!
مرّت تلك الذكريات في مخيلتي وأنا متمدّد على الكنبة وزادني فوق ضحكي ضحكاً. تذكّرت ذاك المثل الشعبي الذي كان جدّي يردّده على مسامعي دوماً: “يلي بعيّب… بيبتلى”.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب