القرض الحسن: 7 أيّار مالي.. مع شرعية شعبية

مدة القراءة 7 د

في آب 2017، وفي غمرة التشدّد الأميركي تجاه البنوك التي تتعامل مع “حزب الله”، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً يحدّد مهلة لمؤسسات الإقراض الصغير حتّى آخر تموز 2019 لتسوية أوضاعها وتصفية قروضها أو التفرّغ عنها. بعد شهرين ونصف من انتهاء المهلة، انهار القطاع المصرفي وبقيت جمعية “القرض الحسن”، وحدها، تمنح القروض، وتعمل لأن تسمح لمودعيها بسحب الدولار من ماكينات السحب الآلي.

لا يملأ “حزب الله” اللوحات العملاقة بإعلانات “القرض الحسن”، كما يفعل بصور قاسم سليماني. فهو لم يكن حتّى وقت قريب يريد تظهير امتداد الدولة الموازية خارج حدود العسكر والأمن.

لكنّ الوضع اختلف الآن، إلى حدّ أن يتحوّل الأمين العام لـ”حزب الله” إلى زميل لسعد الأزهري وسليم صفير ونديم القصار، يخرج على الناس بخطاب ترويجي يستعرض فيه تاريخ مصرفه، ويتباهى بحجم القروض التي يقدمها، وأعداد العملاء. إنّها لحظة انتصار “بنك الظل” (shadow bank) على القطاع المصرفي النظامي، في ذروة الأزمة التي يعيشها هذا الأخير.

حاول نصر الله إضفاء الشرعية القانونية على الجمعية بالاستناد إلى ورود اسمها في دليل صادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية عام 2001، وهي طريقة غير مسبوقة في إثبات الترخيص لمؤسسة مصرفية! أخرج الدليل أمام الكاميرا وأخذ يقلّب في صفحاته التي قال إنّها تحتوي أسماء جمعيات مماثلة من كل الطوائف والمناطق، وقال ما حرفيته: “هذه المؤسسة لها شبيه في لبنان، يعني هذا الموضوع.. إنو أف.. بس عندكم إنتو؟ يعني إنتو عاملين هيك شي؟.. لأ”.

انهار القطاع المصرفي بعد شهرين من مهلة تسوية أوضاع جمعيات القروض الصغيرة في 2019

بلى: “بس عندكم إنتو”. جمعية “القرض الحسن” لا تُقارن بأيّ من مؤسسات التمويل المتناهي الصِغَر المرخصة قانونياً. فهذا النوع من الجمعيات له توصيف قانوني من حيث والتنظيم وكيفية منح التمويل والحدّ الأقصى لحجم التمويل الإجمالي، ولا يجيز لها القانون بأي شكلٍ من الأشكال أن تكون مصرفاً كامل الأوصاف، يستقبل أموال الغير ويمنح القروض والسلف، وينفذ الرهونات.

بهذا الوصف، الجمعية هي بنك خارج على القانون، فهي تخالف المادة 125 من قانون النقد والتسليف، التي تحظر “على أيّ شخص حقيقي أو معنوي لا يمارس المهنة المصرفية أن يتلقّى ودائع”. وكذلك المادة 126 من القانون نفسه التي تمنع ممارسة المهنة المصرفية إلا على “مؤسسات منشأة بشكل مغفلة أو مساهمة”. وبالتالي، القانون صريح في أنّه لا يمكن للجمعية أن تمارس أنشطة البنوك.

الفرق بين البنك ومؤسسة التمويل المتناهي الصغر يوضحه تعميم أساسي صادر عن مصرف لبنان عام 2004 يحمل الرقم 93. ذاك التعميم يحظر بوضوح على الجمعيات الإقراض المباشر خارج القطاع المصرفي، بل يشترط على الجمعيات والمؤسسات المتخصّصة بهذا النوع من التمويل إيداع أموالها في البنوك، على أن يقوم البنك بالإقراض من تلك الأموال المودعة أو من أمواله الخاصة بكفالة الجمعية أو المؤسسة. كما أن التعميم يضع حداً أقصى لما يمكن للجمعية أو المؤسسة الواحدة كفالته من القروض الصغيرة مقداره 15 مليار ليرة، أي 10 ملايين دولار وفق سعر الصرف الرسمي، وهو رقم تتجاوزه مؤسسة القرض الحسن بأكثر من مئة ضعف.

حجم الدولارات المودعة في “القرض الحسن” هو السرّ الذي لم يفصح عنه أي من مسؤوليه، بمن فيهم نصر الله. تلك الدولارات هي الاحتياطي الموازي لدولة “حزب الله”

من حيث الحجم، ليست جمعية القرض الحسن بنكاً عادياً، بل مصرف فائق الحجم. فلدى الجمعية 200 ألف مقترض و100 ألف مودع، وحجم قروضها المقدمة خلال عام 2019 وحده بلغ 480 مليون دولار، وهو رقم لم يصل إليه أي من البنوك اللبنانية الكبرى في قطاع الأفراد خلال العام نفسه. وقاربت قروض الجمعية 1.6 مليار دولار منذ عام 2017. واستناداً إلى هذه الأرقام المعلنة، يرجّح أن حجم محفظتها الائتمانية القائمة يتراوح بين 1.2 مليار و1.4 مليار دولار، وهو رقم يزيد على محفظة أيٍّ من البنوك الكبرى لقروض الأفراد باستثناء “الإسكان”. ولدى الجمعية 31 فرعا، تتفوق فيها عدداً على جميع البنوك الأخرى في بيروت الكبرى والجنوب والبقاع.

ماذا تفعل الدولة بهذا الحجم من العمليات المصرفية خارج نطاق الشرعية؟ هل تسلّم به لـ “حزب الله” باعتباره جزءاً من أدوات “المقاومة”، كما سلّمت له بالسلاح، وبشبكة الاتصالات، وبالمعابر المعبّدة مع سوريا التي يديرها الحزب؟

ما لم يتطرق إليه نصر الله أنّ مصرف لبنان أصدر في 16 آب 2017 تعميماً وسيطاً حمل الرقم 505، وضع فيه مهلة لمؤسسات الإقراض الصغير حدّها الأقصى 31 تموز 2019 لتسوية أوضاعها، لاسيما التفرّغ عن القروض الممنوحة منها مباشرة أو لتصفيتها، و”وفي حال تعذّر عليها ذلك يمكنها مراجعة مصرف لبنان بهذا الخصوص”.

وأرفق ذلك التعميم بآخر في التاريخ نفسه يحمل الرقم 506، يضيف أحكاماً خاصّة بشروط تأسيس وممارسة عمل المؤسسات المالية المتخصصة بمنح “قروض صغيرة”، ومن ضمنها التركيز على قيام هذه المؤسسات “على مسؤولياتها”، بالتزام مكاتبها بالأنظمة الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”. (الفقرة الثالثة من البند “سادساً”).

ماذا تفعل الدولة بهذا الحجم من العمليات المصرفية خارج نطاق الشرعية؟ هل تسلّم به لـ “حزب الله” باعتباره جزءاً من أدوات “المقاومة”، كما سلّمت له بالسلاح، وبشبكة الاتصالات، وبالمعابر المعبّدة مع سوريا التي يديرها الحزب؟

لم يتوقف الإعلام عند ظروف صدور هذين التعميمين، وما إذا كان في ذهن معدّهما حينذاك وضع إطار قانوني لتسوية وضع “القرض الحسن” أو تفكيكه على غرار “البنك اللبناني الكندي” و”جمال ترست بنك”. خصوصاً أنّ الجمعية موضوعة على قوائم الإرهاب الأميركية منذ عام 2007. لكنّ الأكيد أنّ المضي في تنفيذهما كان سيستتبع “7 أيار مالياً”، لأنّ بنك دولة “حزب الله” الموازية، أكبر من أن يتّسع له ثوب قانوني ضيّق يخضع لشروط النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن.

ومن مفارقات القدر أنّ النظام المصرفي النظامي انهار بعد شهرين ونصف فقط من تلك المهلة التي حدّدها مصرف لبنان، فيما كانت “القرض الحسن” المؤسسة الوحيدة التي أطلقت منتجات جديدة، ومنحت قروضاً بالليرة اللبنانية في 2020. (أطلقت في تشرين الأوّل الماضي برنامج قروض جديد خصصت له مئة مليار ليرة، ليمنح القروض بحدّ أقصى مقداره 40 مليون ليرة للأفراد و80 مليوناً للمؤسسات).

إقرأ أيضاً: القروض المتعثّرة أكلت 69% من رساميل المصارف

ظلت جمعية القرض الحسن لسنواتٍ طويلة بنكاً يتوسّع في الظل داخل الدولة الموازية، من دون أن يستعرض وجوده في الإعلام. لكنّ انهيار البنوك النظامية أكسبه شرعيّة مضافة في بيئة “حزب الله”. كان بنكاً للإقراض في المقام الأوّل، ثم تدفّقت إليه الودائع منذ عام 2015 بعد تشديد العقوبات الأميركية على البنوك التي تتعامل مع الحزب.

هذه المرّة يجد من أودعوا أموالهم فيه أنّ العقوبات الأميركية كانت خدمة طيّبة لهم. ففي بنك الظلّ أمان للودائع أكثر من البنوك التي ضيّعت أموال الناس في قروض للدولة وودائع لدى مصرف لبنان.

إنّه الآن بنك للإيداع، وحجم الدولارات المودعة فيه هو السرّ الذي لم يفصح عنه أيّ من مسؤوليه، بمن فيهم نصر الله. تلك الدولارات هي الاحتياطي الموازي للدولة الموازية، وهي تفوق بالتأكيد ما لدى أيٍّ من البنوك، بالعملة الصعبة.

أخرج نصر الله بنك الظلّ إلى الضوء من دون أن يعبأ بوضعه القانوني، ولم يكن ليفعل ذلك لولا أنّ النظام المالي الرسمي سقط وفقد شرعيته في عيون الشعب.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…