القروض المتعثّرة أكلت 69% من رساميل المصارف

مدة القراءة 6 د

ليس صحيحاً أن أزمة المصارف الوحيدة اليوم هي مصير الديون التي قدّمتها إلى الدولة اللبنانيّة ومصرف لبنان، إذ يبدو أنّ مستويات التعثّر في القروض الممنوحة إلى القطاع الخاص ستُضاف خلال الفترة المقبلة إلى الأزمات التي تضرب القطاع بقسوة. فحجم القروض المتعثّرة زاد مؤخراً عن 19.59 ألف مليار ليرة لبنانيّة، في حين أن جميع رساميل المصارف لا تتجاوز قيمتها اليوم 28.37 ألف مليار ليرة، ما يعني أن حجم القروض المتعثّرة بات يوازي 69% من إجمالي الرساميل الموجودة في القطاع المصرفي.

أمّا الأزمة الأكبر، فتكمن في أنّ أكثر من ثلثي هذه القروض المتعثّرة هي قروض مقوّمة بالدولار الأميركي وليس بالليرة اللبنانيّة، ما يعني أنّه على المصارف أن تكوّن المؤونات مقابل هذه القروض المتعثّرة بالدولار المحلّي (أو اللولار)، وأن تحتسب الخسائر الناتجة عن تعثّر هذه القروض بالدولار أيضاً.

في بداية الأزمة، اعتبرت المصارف أنّ القروض الممنوحة يمكن أن تمثّل فرصة بالنسبة لها، من خلال تمكين المودعين من استخدام السيولة العالقة في المصارف لشراء العقارات أو الذهب أو غيرها من الموجودات من المقترضين، مقابل شيكات مصرفيّة يستعملها أصحاب القروض لسداد ديونهم. وبالفعل، تمكّنت المصارف بين شهري تشرين الأوّل 2019 وتشرين الأوّل 2020 من خفض الديون الممنوحة للقطاع الخاص من 50.35 مليار دولار إلى نحو 36.09 مليار دولار، ما يعني أن المصارف تخلّصت خلال تلك السنة من نحو 28% من القروض الممنوحة بسرعة قياسيّة، نتيجة هذا النوع من العمليات.

الأزمة الأكبر، فتكمن في أنّ أكثر من ثلثي هذه القروض المتعثّرة هي قروض مقوّمة بالدولار الأميركي وليس بالليرة اللبنانيّة، ما يعني أنّه على المصارف أن تكوّن المؤونات مقابل هذه القروض المتعثّرة بالدولار المحلّي (أو اللولار)

لكن بالتوازي مع الحلحلة التي شهدتها المصارف بالنسبة إلى هذه الفئة من أصحاب القروض، كان عدد القروض التي تتوقّف عن الدفع يرتفع تدريجيّاً، بالتوازي مع الإفلاسات الواسعة النطاق التي حصلت في القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، والتي أدّت إلى توقّف الشركات عن سداد تسهيلاتها التجاريّة، كما أدّت إلى توقّف الموظفين عن سداد قروضهم الشخصيّة بعد تسريحهم من أعمالهم. وفي النتيجة، تضاعفت نسبة القروض المتعثّرة من إجمالي القروض الممنوحة في المصارف من 4.3% في بداية عام 2019 إلى أكثر من 28% اليوم، ما يعني أن أكثر من ربع القروض المصرفيّة الممنوحة اليوم باتت متعثّرة.

مصادر مصرفيّة تشير لـ”أساس” إلى أنّه وعلى الرغم من ارتفاع هذه النسبة بشكل جنوني، فإنّ الأرقام الفعليّة لنسب التعثّر في القروض هي أعلى بكثير. فقوانين تعليق المهل التي أقرّها المجلس النيابي ومدّد لها منعت المصارف عمليّاً من اتّخاذ أي إجراءات قانونيّة بحقّ أصحاب القروض المتعثّرة. فلم تعد المصارف تملك المصلحة في تصنيف هذه القروض كقروض متعثّرة طالما أنّها غير قادرة على وضع يدها على الضمانات والرهونات أو مقاضاة أصحاب القروض. خصوصاً أنّ تعاميم مصرف لبنان والمعايير المحاسبيّة تفرض تكوين مؤونات مقتطعة من أرباح المصارف مقابل كل قرض متعثّر. ولذلك، لجأت المصارف طوال الفترة الماضية إلى إعادة جدولة القروض أو غضّ النظر عن تأّخر أصحابها في الدفع، لعدم تصنيفها كقروض متعثّرة، رغم أنّ هذه القروض هي في واقع الأمر متعثّرة.

لكل هذه الأسباب، قدّرت شركة “لازارد” حجم الخسائر المتوقّعة جراء تعثّر قروض القطاع الخاص بأكثر من 44 ألف مليار ليرة لبنانية، وهو ما يوازي نحو 2.2 مرّات حجم القروض المتعثّرة التي صرحت عنها المصارف اليوم. فيما توازي قيمة الخسائر التي قدرتها “لازارد” 1.5 مرات الرساميل الحاليّة الموجودة في القطاع المصرفي. وإذا سلمنا بهذه الأرقام، فستكون نسبة القروض المتعثرة من إجمالي القروض الممنوحة اليوم من قبل المصارف نحو 64%، وهي نسبة مرتفعة جدّاً بكل المقاييس.

مصادر مصرفيّة تشير لـ”أساس” إلى أنّه وعلى الرغم من ارتفاع هذه النسبة بشكل جنوني، فإنّ الأرقام الفعليّة لنسب التعثّر في القروض هي أعلى بكثير

حتّى اللحظة، اقتصر التعامل الرسمي مع الأزمة بتجديد تعليق المهل لمدّة ستة أشهر إضافيّة، في جلسة مجلس النواب الأخيرة، ما يعني أن المصارف ستكون ممنوعة من اتّخاذ أي إجراءات قانونيّة بحقّ القروض المتعثّرة، حتّى منتصف السنة. لكنّ هذا الإجراء الذي يوفّر مظلة قانونيّة للمقترض المتعثّر، لا يقدّم أجوبة فعليّة للأزمة على المدى الطويلز فحجم الخسائر المتوقعة جراء هذه الأزمة بات ضخماً جداً قياساً بحجم الرساميل الموجودة في القطاع. وبالتالي، فمن شأن بقاء هذه الخسائر المتراكمة في ميزانيات القطاع أن يعيق أي محاولة لإعادة الإنتظام إلى عمل القطاع المالي في لبنان.

إقرأ أيضاً: 2020: خسرنا نصف الاقتصاد وربع الناتج الإجمالي

جمعيّة المصارف أصرّت خلال النقاشات السابقة في مجلس النواب على التقليل من شأن هذه الخسائر، وأصرّت على وجود ضمانات عقاريّة مقابل الغالبيّة الساحقة من القروض المصرفيّة للزبائن. علماً أنّ الأرقام المتاحة اليوم تفيد بوجود أكثر من 14 ألف قرض سكني متعثّر، من ضمن القروض المتعثّرة في القطاع، وهو ما يمثّل نحو 11% من القروض السكنيّة الممنوحة. لكنّ فكرة معالجة كتلة القروض المتعثّرة في الميزانيات المصرفيّة من خلال التصرّف بالضمانات العقاريّة الموجودة ستمثّل كارثة إجتماعيّة موصوفة، كونها ستؤدّي إلى تهجير جماعي لأصحاب القروض في ظل الأزمة المعيشيّة الخانقة التي تعيشها البلاد اليوم.

في الخلاصة، يبقى الأكيد أن التعامل مع هذه الخسائر الموجودة في ميزانيات القطاع مستحيل دون خطة كاملة تحدّد كافة أشكال الخسائر التي يعاني منها اليوم، التي تعيق استعادته ملاءتَه وسيولتَه. كما أنّ معالجة حجم هذه الخسائر غير واقعي من دون معالجة باقي عناصر الأزمة، التي أدّت إلى الوضع الإقتصادي الحالي وإلى تعثّر المقترضين في سداد ديونهم المصرفيّة. وحتّى فكرة تعليق المهل التي يقوم بها المجلس النيابي، ستبقى ضمن مسار عبثي إذا لم يفضِ إلى سلّة كاملة من الحلول التي تضمن لاحقاً قدرة المقترضين على سداد التزاماتهم، أو قدرة المصارف على التعامل مع الفجوة الماليّة الناتجة عن تعثّرهم.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…