ننشر هنا سجالاً بين الزميلين قاسم يوسف وزياد عيتاني حول بهاء الحريري. في النصّ أدناه مقالة الزميل قاسم، ويليه رابط يؤدّي إلى ردّ زياد.
سعد الحريري ما عاد ينفع. لا لتصويب أدائه ولا لتغيير سلوكه ولا لإعادة إنتاجه. الرجل انتهى وبات من الماضي وفق كل المقاييس، وصار الضرب فيه ضرباً من الحرام.
السؤال الأهم: ماذا بعد؟
ليس في ندرة الخيارات المتاحة ما يحملنا على الترف أو الانتظار. ثمة ما يجب أن نفعله على نحوٍ عاجل، وثمة أيضاً ما يجب أن نقوله، وبكل صراحة.
في شِقّ القول الصريح، يمكننا أن نفكر سوياً بصوت مرتفع: ما هي الخيارات السنية المطروحة الآن؟ ومن هم بدائل سعد الحريري؟
قبل ثورة 17 تشرين، كانت الإجابات على هذه الأسئلة كثيرة ومتنوعة. قد تبدأ مثلاً بفرضية تكثيف الجبهات المعارضة وتنظيمها وربما تأطيرها تحت سقف تصويب الأداء، انطلاقاً من صلابة الموقف السياسي، ومن التمسك بالصلاحيات التي تستند إلى الدستور، مروراً بتحسين شروط التسوية وإعادة هيكلة الخطاب والتنظيم، وصولاً إلى المساهمة بربط ما انقطع في العلاقة مع الرياض، وفق آلية واضحة وخطة عمل مدروسة وأساسات متجذرة وثابتة ولا غبار عليها.
هذا قبل الشروع في التفتيش عن البدائل. وهي بطبيعة الحال كثيرة ووافرة، قد تبدأ برفاق رفيق الحريري الذين مارسوا أدواراً سياسية وازنة، واستطاعوا أن يحافظوا على صلابتهم وشجاعتهم وثباتهم في عزّ الضراوة والاشتباك، ولا تنتهي قطعاً بعشرات الشخصيات المؤهلة للعب هذا الدور، وعلى رأس هؤلاء يحضر تمام سلام الذي ظهر بصورة رجال الدولة الاستثنائيين في مرحلة شديدة الدقة والحساسية والتعقيد، حيث استطاع بصبره وحكمته وخبرته أن يحتضن كرة النار دون أن يرفّ أو يرتجف.
لكن هذا كله اصطدم آنذاك بمجموعة كبيرة من المعوقات، ليس أقلها حالة التشتت الرهيبة التي أصابت المعارضين لسلوك الحريرية السياسية في سنواتها الأخيرة، وهذا ما منح سعد الحريري فرصة اللعب على التناقضات، حيث عمد إلى ضرب مجموعة من الشخصيات التي قد تُشكل خطراً حقيقياً على مستقبله السياسي، وعمد أيضاً إلى استمالة آخرين، ما أدى إلى انعدام البديل الجاهز والمقبول، والذي يمكن تسويقه فوراً لإدارة المرحلة برمتها.
بعد ثورة 17 تشرين، تغيّرت الأمور كثيراً. باتت الحكاية في مكان آخر، وبات التصدع والتهشيم أعمق من القدرة على الإصلاح، وهذا ما يستدعي نفضة كاملة وشاملة، تبدأ أولاً بإزاحة سعد الحريري عن واجهة المشهد السياسي واستبداله بشخصية قادرة على مواكبة الحاضر والمستقبل، وعلى إعادة تصويب البوصلة السياسية والوطنية، انطلاقاً من خطاب عصري يحمل راية الدولة المدنية، ويفتح الباب واسعاً أمام إصلاحات جذرية في بنية النظام وفي العقد الاجتماعي، ويؤسس لسلوك مغاير يحاكي الانتفاضة الشعبية العارمة ويلامس تطلع اللبنانيين نحو مستقبل أفضل على كل المستويات والأصعدة.
في غمرة هذا النقاش المفتوح على مصراعيه، أطل بهاء الحريري على نحوٍ مباغت ببيان لافت في مضمونه وتوقيته، وهو بيان ينطوي على رغبة حقيقية بالدخول إلى الساحة السياسية، ولتقييم هذه الخطوة، لا بد من قراءة هادئة ومعمّقة وذكية، بعيداً من الرؤوس الحامية والحسابات الشخصية والأفكار المعلّبة.
أولاً: ما هي الإيجابيات والسلبيات؟ وبماذا قد يختلف بهاء عن شقيقه؟
في ظاهر الأمور وثوابتها وبديهياتها، هو الابن الأكبر لرفيق الحريري، ولهذا الأمر أهمية معنوية لا جدال فيها، وهو أيضًا شخصية ناجحة يُحسب لها حساب في قطاعات شتى، وقد استطاع أن يدير أعماله المزدهرة بنجاح وتراكم، بعكس شقيقه الذي أسقط إمبراطورية لا تأكلها النيران، بعد أن حوّلها من مثال يكتنز أرفع مظاهر التفوق والابتكار والنجاح، إلى صورة مشوهة تختصر ما تيسّر من العشوائية واللامسؤولية والفشل.
في الظاهر أيضاً، بهاء لم يتورط بأي دور سياسي أو فساد مالي داخل لبنان، بينما لعب شقيقه الدور الأساسي في إدارة المرحلة منذ العام 2005، حيث نسج التحالفات وعقد التسويات وأبرم الصفقات التي وصلت جميعها إلى حائط مسدود، وأوصلته وأوصلت تياره ومعهم طائفة بقدّها وقديدها إلى الدرك الأسفل وإلى القاع السحيق، فضلاً عن انطباع عام بات يوازي الحقيقة المطلقة عن فساد مستشرٍ في أروقة اللصيقين به والمقربين منه.
في الظاهر أيضاً وأيضاً، برز اسم بهاء الحريري لأول مرة عقب استقالة سعد الحريري في الرياض، وقد ارتكز ظهوره يومذاك إلى رغبة سعودية بتعويمه على حساب شقيقه، وهذا يعني، في ما يعني، أنه منسجم ومتفاهم مع قيادة المملكة ويحظى بالتالي بدعمها وتأييدها، في مقابل استياء سعودي بالغ الحدة والوضوح من سعد الحريري، وقد لامس حدوداً غير مسبوقة على الإطلاق في العلاقة التاريخية بين الحريرية السياسية وحضنها الإقليمي.
ليس المطلوب أن نشهر أسلحتنا بوجه بهاء الحريري، بل المطلوب أن نذهب إلى محاورته وإلى دفعه نحو تقديم وثيقة سياسية علنية توضح مواقفه إزاء كل الملفات الملتبسة
في المضمون، لا شيء نعرفه عن بهاء، ما هو موقفه من الأزمة اللبنانية، من النظام، من اتفاق الطائف، من حزب الله. ما هو تصوره للمرحلة المقبلة، ما هو خطابه السياسي والوطني، وكيف سيتعامل مع الإحباط السني، ما هي ثوابته وقيمه ومبادئه، ومن هم حلفاؤه في الداخل وفي الخارج. هذه كلها أسئلة لا بد من الإجابة عليها بشكل شفاف وواضح ودون أي مواربة أو تحايل.
أما سعد الحريري، فحدِّث ولا حرج. أقله منذ التسوية الرئاسية الكارثية، وما لحقها من قانون انتخابي يرقى إلى مرتبة الانتحار السياسي، فضلاً عن تنازلات لامست كل شيء، من أبسط صلاحياته الدستورية، إلى مجمل المكتسبات والمواقع والحقوق، لكن هذا كله كان أقل وقعاً من علاقته الملتبسة مع حزب الله، والتي وصلت إلى حدود التكامل والتنسيق، في واحدة من أبشع المصالح المتبادلة بين قاتل وقتيل، حيث يسكت عن كل موبقاتهم، مقابل أن يتشبثوا به رئيساً وحيدًا للحكومة.
هذا غيض من فيض نقاش طويل وعميق، ولذلك لا بد من التمهل والحكمة والهدوء، فليس المطلوب أن نشهر أسلحتنا بوجه بهاء الحريري، بل المطلوب أن نذهب إلى محاورته وإلى دفعه نحو تقديم وثيقة سياسية علنية توضح مواقفه إزاء كل الملفات الملتبسة، وهذا ما يجب أن نفعله على نحوٍ عاجل، لنحدّد على أساسه الموقف منه ومن أهليته لإدارة المرحلة.
ربما، أقول ربما، يكون بهاء الحريري هو الحل المقبول والمتاح في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، ولا بأس أن يعمد أهل الحل والعقد إلى دراسة هذا الخيار على نحوٍ هادئ وعاقل ومستفيض، وأن يضعوا نُصب أعينهم حقيقة واحدة ومطلقة، مفادها أن الوضع ما عاد يحتمل العلاج بالمُسكّنات، وأن الاستئصال بات ضرورياً ومُلحاً ولا رجعة فيه.
إقرأ أيضاً: بهاء الحريري وبيانات الدولة العليّة (3)
كذلك إقرأ أيضاً: بهاء وجيري…”ديو” الصفقة الخاسرة (1)