طمأن القائد العامّ للإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع روسيا إلى أنّه لا يريد أن تخرج روسيا من سوريا “بالشكل الذي يهواه البعض”، واصفاً إيّاها بالدولة “المهمّة”. لكنّ موسكو تدرك أنّه، في ظلّ التحوّل الكبير الحاصل في بلاد الشام وعدم وضوح المستقبل فيها، سيتراجع دورها في الدولة العربية التي استثمرت فيها طويلاً. وبات عليها أن تبحث عن موقع جديد في المياه الدافئة للبحر المتوسط يوفّر لها الطريق لإسناد مشاريعها الكبرى في القارّة الإفريقية. ولن تجد بديلاً لذلك سوى الشرق الليبي، حيث المقرّ الرئيس لفيلقها الروسي ومرتزقتها.
سلّط موقع “إنسايد أوفر” الإيطالي الضوء على الجسر الجوّي الذي أقامته روسيا مع ليبيا بعد التطوّرات الأخيرة في سوريا، معتبراً أنّ الضفة الجنوبية للبحر المتوسط قد تصبح مسرحاً جديداً للتوتّر والتجاذبات الجيوسياسية بين موسكو وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وفقاً للموقع نفسه، المتخصّص في رصد الرحلات الجوّية، فإنّ طائرتين روسيّتين من طراز “إليوشن 76 تي دي” تابعتين لوزارة الطوارئ الروسية تتناوبان في مدّ جسر جوّي بين روسيا وقاعدة الخادم الجوّية في برقة شرقي ليبيا، حيث لموسكو أفراد وقدرات عسكرية كانوا مرتبطين سابقاً بمجموعة “فاغنر” أعادت تنظيمهم في ما بات يعرف بـ”الفيلق الروسي في إفريقيا”، الذي يتولّى أدواراً أمنيّة في ليبيا ودول الساحل وجنوب الصحراء.
الفيلق في 5 دول إفريقيّة
استخدم الروس سابقاً قاعدة الخادم لتوفير المساعدة والأسلحة لدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي تسيطر قوّاته على معظم شرق ليبيا، ثمّ لدعم قوّات “فيلقها” في الدول الإفريقية الأخرى. وللروس أيضاً قاعدة بحريّة في مدينة طبرق في الشرق تستخدم نقطة تمركز لتسهيل وصول البوارج والقطع البحرية المحمّلة بالأسلحة والعتاد ومنظومات الدفاع الجوّي، وقاعدة عسكرية أخرى في الجفرة في قلب الصحراء.
تعيش ليبيا صاحبة الموقع الاستراتيجي والموارد الغنيّة، حالة من الانقسام السياسي والفوضى وعدم الاستقرار
يتوزّع الفيلق في 5 دول إفريقية هي ليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر التي دخلتها موسكو باعتبارها نصيرة للاستقلال الإفريقي عن الاستعمار الأوروبي، وخصوصاً الفرنسي. لكنّها في الواقع لحماية منابع النفط ومناجم الذهب التي تحوّلت تجارة رابحة ومورداً كبيراً للعملات الصعبة وسبائك الذهب للخزانة الروسيّة.
المقرّ المركزيّ في ليبيا
تحتضن ليبيا المقرّ المركزي للفيلق لأسباب عدّة، منها: نشاط عناصر “فاغنر” سابقاً في مدينة سرت التي تبعد 450 كيلومتراً شرق العاصمة الليبية طرابلس. وتتبع إدارة الفيلق الإفريقي سلطة الإدارة العسكرية الروسية مباشرة، ويشرف عليه الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي، بعد اعتماد تعديلات على قانون ميزانية القوّات المسلّحة الروسية عام 2023 تسمح للحرس الروسيّ بأن تشمل صفوفه تشكيلات من المتطوّعين والأجانب.
كشف اتّحاد التحقيقات السويسري “All Eyes On Wagner” (كلّ العيون على فاغنر) أنّ عديد القوّات الروسية كان في شباط 2024 يناهز 800 عنصر، وما لبث أن ارتفع إلى 1,800 في أيّار من العام نفسه.
في 18 كانون الأوّل، أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أنّه تمّ نقل رادارات وأنظمة دفاع جوّي روسية، من بينها “إس – 300” و”إس-400″، من سوريا إلى ليبيا، مستندةً في ذلك إلى مسؤولين ليبيّين وأميركيين.
لم يكن اختيار برقة وجهةً لهذا الجسر الجوّي اختياراً عشوائياً، ذلك أنّ الشرق الليبي الخاضع لسيطرة قوات الجنرال حفتر يمثّل منطقة نفوذ استراتيجي لروسيا وعملت موسكو طوال السنوات الأخيرة على ترسيخ وجودها فيه واستخدمته أداة لضمان حضور استراتيجي في البحر الأبيض المتوسط والوصول إلى حقول الطاقة في المنطقة، ذلك أنّ من شأنه أن يعزّز قدرات موسكو على إرسال قوّاتها إلى شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
من المفارقات أنّ الجسر الجوّي بين روسيا وليبيا يتمّ بالتعاون مع تركيا، العضو الوحيد في حلف “الناتو” الذي لم يُغلق مجاله الجوّي
أرض خصبة للاختراق الأجنبيّ
تعيش ليبيا صاحبة الموقع الاستراتيجي والموارد الغنيّة، حالة من الانقسام السياسي والفوضى وعدم الاستقرار، وهو ما يجعلها أرضاً خصبة للاختراق الأجنبي وتوفير فرص مهمّة للدول الكبرى، ومن بينها روسيا، لتثبيت موطىء قدم أو رأس جسر في الإقليم الغنيّ والشديد الأهمّية جغرافيّاً.
على الرغم من مشكلاتها الاقتصادية والعسكرية الناجمة عن الحرب المدمّرة في أوكرانيا، تظهر روسيا قدرتها ورغبتها في تعزيز نفوذها خارج مداها الإقليمي الحيويّ، وتواصل تحريك قطعها على رقعة الشطرنج المتوسّطيّة.
مخاوف “الناتو”… وخواصره
تثير روسيا المنخرطة في مواجهة كبرى غير مباشرة مع الأوروبيين والغرب في أوكرانيا، بوجودها العسكري المعزّز في ليبيا المجاورة للسواحل الإيطالية، مخاوف “الناتو” والدول الأوروبية لأنّها تهدّد بشكل مباشر الأمن البحريّ والجوّي للطرفين في المتوسّط.
في هذا الصدد، قال وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروسيتو لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية: “السفن والغوّاصات الروسية في البحر الأبيض المتوسط هي دائماً مصدر قلق، وبدلاً من أن تكون على بعد ألف كيلومتر هي على بعد خطوتين منّا”.
أثارت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني قضيّة الوجود الروسي في إفريقيا مع حلفائها، وحضّت “الناتو” على تعزيز وجوده في القارّة، وقالت: “نركّز بشدّة على خاصرتنا الشرقية (أوكرانيا) غير مدركين أنّ جميع خواصر هذا التحالف عرضة للخطر، وخاصة الجنوبية (المتوسّط)”.
لا يتعلّق الأمر فقط بالجانب العسكري، بل يتعدّاه إلى قضايا أخرى مثل تدفّقات الهجرة والطاقة والأوضاع السياسية الداخلية للدول في المنطقة. وترى أوروبا في الفيلق الروسي خطراً على ما بقي من وجود سياسي وعسكري وماليّ لفرنسا، مثل وجودها في ساحل العاج والغابون والكاميرون وغيرها.
تراجعت روسيا في سوريا خطوة إلى الخلف، لكنّها تقدّمت خطوتين إلى الأمام في ليبيا
من المفارقات أنّ الجسر الجوّي بين روسيا وليبيا يتمّ بالتعاون مع تركيا، العضو الوحيد في حلف “الناتو” الذي لم يُغلق مجاله الجوّي أمام الطائرات الروسية. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كانت هناك صفقة ثلاثية روسية – تركية – أميركية توفّر ملاذاً لموسكو في ليبيا مقابل تخلّيها عن دعم نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد.
دور تركيّ غامض
تضطلع تركيا بدور غامض في ليبيا، حيث تدعم حكومة طرابلس ضدّ قوات حفتر، وتحافظ في الوقت ذاته على قنوات اتّصال مفتوحة مع موسكو. وهذا الغموض يُعقّد مهمّة حلف “الناتو” في الردّ بطريقة متّسقة على التحرّكات الروسية في المنطقة، ويزيد من مخاطر الانقسام داخل الحلف.
إقرأ أيضاً: سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا
تراجعت روسيا في سوريا خطوة إلى الخلف، لكنّها تقدّمت خطوتين إلى الأمام في ليبيا. ذلك لا يبعث الاطمئنان في نفوس الليبيين المشرذمين بين حكومتين، واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، وبين قوى دولية تتصارع بالوكالة على أرضهم، فباتوا أكثر خشية على بلدهم من أن يعود ساحة لتصفية الحسابات، وأن تتبخّر خريطته الحالية في ظلّ المتغيّرات الدولية وانقلاب المعادلات ورسم الخرائط الجديدة.