سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا

مدة القراءة 7 د

أوجد سقوط نظام بشار الأسد واقعاً استراتيجيّاً جديداً في الشرق الأوسط. خرجت إيران من سوريا وضعف دور روسيا، فدخلت تركيا عبر حلفائها السوريين وملأت الفراغ، وحقّقت إسرائيل أمنياتها بكسر “محور المقاومة” وقطع خطوط الإمداد بين طهران والضاحية الجنوبية لبيروت، لتكون الاثنتان أكبر الرابحين في لعبة الأمم الجديدة.

كان التنافس السياسي شديداً بين إيران وتركيا على المكانة الإقليمية. لجأ الطرفان إلى الإرث التاريخي والجغرافي والثقافي والديني في المبارزة على الريادة في محيطهما، ولم يوفّرا القضيّة الفلسطينية شعاراً مقبولاً شعبيّاً لتحقيق مكاسب استراتيجيّة. خروج إيران من سوريا والضربة القاسية التي تلقّاها حليفها الأوّل، “الحزب”، في لبنان، أضعفا أوراقها في المواجهة الإقليمية الكبرى. في المقابل، وضعا أنقرة في مواجهة تل أبيب إثر الاندفاعة التركية السريعة والصاخبة في سوريا ووصولها إلى خطوط التماسّ المباشرة مع إسرائيل، وجعلاها لاعباً إقليمياً كبيراً.

أوجد سقوط نظام بشار الأسد واقعاً استراتيجيّاً جديداً في الشرق الأوسط

الدّولة العثمانيّة… على حدود فلسطين التّاريخيّة

تركيا وإسرائيل، حليفان مهمّان للولايات المتحدة. العلاقة بينهما محكومة بسقوف محدّدة لا يمكن تجاوزها. توتّرت نسبيّاً بعد “طوفان الأقصى”، لكنّها لم تنقطع ولم تتزعزع. بعد الانقلاب السوري، بات بنيامين نتنياهو المتباهي بـ”انتصاراته” على أطراف المحور الإيراني، وجهاً لوجه أمام رجب طيب إردوغان الذي نجح رهانه في بسط نفوذ بلاده عبر أراضي الدولة العثمانية السابقة حتى حدود فلسطين التاريخية.

تشي كلّ المؤشّرات بأنّ أنقرة التي حجزت لنفسها المقعد الأوّل في الصفوف الأمامية السورية، لن تتأخّر في جعل سوريا دولة حماية تركيّة تكون فيها صاحبة النفوذ الاقتصادي والسياسي الأكبر، تماماً مثلما فعلت إيران في العراق بعد الغزو الأميركي وانهيار نظام الرئيس صدّام حسين، عبر إبقاء مراكز القوّة المحلّية في سوريا معتمدة عليها.

تركيا وإسرائيل، حليفان مهمّان للولايات المتحدة. العلاقة بينهما محكومة بسقوف محدّدة لا يمكن تجاوزها

ميزات تركيا

إسرائيل، التي حصدت أيضاً حصّة وازنة عسكرياً واستراتيجياً في سوريا بإخراجها دمشق، ولو مؤقّتاً، من معادلة الصراع القومي، وأزاحت إيران من المواجهة الإقليمية وأضعفتها، قد لا تجد نفسها في وضع مريح إزاء تقدّم تركي لديه مقدرات كبرى على المنافسة على مكانة “الدولة – المركز” في النظام الإقليمي العتيد. في المقاسات الاستراتيجية، تملك تركيا ميزات تنافسية جبّارة:

  • لديها إرث تاريخي وثقافي عميق في المنطقة التي حكمها أسلافها لنحو خمسة قرون.
  • لا تشكّل عقيدتها ولا ثقافتها العامّة عقدة أو مشكلة لغالبية السكّان في الجوار. نموذجها للعيش والتأقلم مقبول.
  • دولة عضو في حلف “الناتو” تشغل المرتبة الثانية فيه من حيث حجم القوّات والقدرات العسكرية. وهي واحدة من الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم، وغير مدرجة في أيّ نظام عقوبات.
  • أظهر أداء وزير خارجيّتها حقان فيدان في التطوّرات السورية الأخيرة أن لا خشية من أزمة بديل لزعيمها إردوغان، على عكس دول كثيرة في العالم يحكمها أقوياء.

إذا ما نجحت أنقرة في تثبيت حكم حلفائها في سوريا بأقلّ كلفة دم ممكنة، ومكّنتهم من تحقيق نجاحات نسبية في الأمن والاقتصاد وتوفير لقمة العيش وإعادة الإعمار، فإنّها ستظهر للسوريين وعموم سكّان المنطقة أنّها نقيض لإسرائيل التي لم تنجح إلا في إظهار وجهها العسكري المدمّر الذي عاث خراباً في سوريا ولبنان وفلسطين، ونقيض لإيران المتّهمة بدعم حكم الاستبداد وحمايته وتصدير ثورتها.

من مصلحة أنقرة أن تظلّ سوريا موحّدة ومركزيّة ليس حبّاً بالسوريين، بل من أجل مصلحة تركيّة خالصة

خلاف تركيا مع إسرائيل حول سوريا

أولى بوادر الافتراق التركي الإسرائيلي في سوريا هي النظرة إلى مستقبل هذا البلد. من مصلحة أنقرة أن تظلّ سوريا موحّدة ومركزيّة ليس حبّاً بالسوريين، بل من أجل مصلحة تركيّة خالصة:

  • لا يمكن لتركيا المكوّنة من فسيفساء إتنية ودينية، حيث يعيش إلى جانب الأتراك أقلّيات كردية وعربية وفارسية وقوقازية، أن تقبل بحكم ذاتي واسع لأيّ مكوّن، إدراكاً منها أنّ الحركات الانفصالية أشبه بعدوى تتفشّى وتنتشر ولا يمكن وقفها، لا سيما في صفوف أكرادها الذين يناضلون منذ عقود للاستقلال. وهكذا، فيما تعتبر أنقرة أنّ تقسيم سوريا إلى دويلات، هو بمنزلة خطّ أحمر لأمنها القومي، فإنّ تل أبيب الساعية إلى قيام الدولة القومية اليهودية ترى مصلحتها في تفتيت سوريا ودول الجوار الأخرى إلى دويلات إتنية وطائفية. وتسعى بكلّ ما أوتيت من قوّة ودعم أميركيَّين إلى تثبيت حكم الأكراد الانفصالي في شرق الفرات السوري، وإطلاق حرّية الحركة السياسية لدروز السويداء.
  • الخلاف على خطوط إمداد الغاز والممرّات الحيوية للتجارة العالمية: ففيما تسعى إسرائيل إلى أن تكون المركز الرئيسي لغاز شرق البحر المتوسط، تعمل أنقرة على إعادة إحياء المشروع الاستراتيجي الذي طرح عام 2009 لمدّ أنبوب للغاز برّاً من قطر إلى تركيا عبر الأراضي السورية، ومنها إلى أوروبا بكلفة منخفضة نسبياً مقارنة بالنقل البحري من مصر وإسرائيل، وتالياً السعي إلى سحب البساط من تحت أرجل تل أبيب والقاهرة كي تكون هي محطّة التسويق الرئيسية للغاز في المنطقة.

من شأن الخطّ الغازيّ الجديد والمشاريع التركية المتعلّقة به أن تنافس مشروع الخطّ الهندي الأوروبي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة وتشكّل إسرائيل عقدته الأساسية

أطلقت الحكومة التركية أيضاً مفاوضات مع السلطة الجديدة في دمشق من أجل ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسّط، وهذا الاتفاق سيسمح “للدولتين بزيادة منطقة نفوذهما في التنقيب عن الطاقة”. ويتجانس الترسيم المزمع إبرامه مع الترسيم المماثل الذي أجرته أنقرة مع ليبيا عام 2019، وأثار غضب اليونان وقبرص شريكتَي إسرائيل ومصر في منتدى غاز شرق المتوسّط. وقد لا يكون لبنان بعيداً عن المشاريع التركية في هذا الصدد.

من شأن الخطّ الغازيّ الجديد والمشاريع التركية المتعلّقة به أن تنافس مشروع الخطّ الهندي الأوروبي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة وتشكّل إسرائيل عقدته الأساسية.

تركيا تفاوض إسرائيل.. حول سوريا

  • إظهار الاحتضان العسكري للسلطة الجديدة في سوريا، عبر التدريب والتسليح وبناء عقيدة قتالية جديدة، وصولاً إلى إقامة تحالف عسكري واستراتيجي مع سوريا من شأنه شلّ إمكان التدخّل العسكري الإسرائيلي وحرّية الحركة الأمنيّة الإسرائيلية والجوّية في الداخل السوري، وأن يتحوّل لاحقاً إلى خطر جدّي على الأمن القومي الإسرائيلي، لا سيما إذا تعزّز وجود المتشدّدين الإسلاميين وأنصار “حماس” داخل الحكم السوري الجديد.

إقرأ أيضاً: تركيا في المياه السورية: نفط البحر… وقواعد عسكرية

ربّما أكثر ما أثار قلق تل أبيب هو الأنباء عن تولّي أنقرة إجراء مفاوضات مع موسكو في شأن مستقبل قاعدتَي حميميم الجوّية وطرطوس البحرية وليس الحكومة السورية المؤقّتة. إذ باتت تخشى أن تضطرّ إلى إجراء مفاوضات مباشرة مع تركيا في شأن احتلالها الأخير لقمّة جبل الشيخ والمناطق العازلة في الجولان.

سيشكّل هذا التنافس المستجدّ على الأرجح أولوية لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وفي ضوء تحدّياته والمخارج والدور الذي ستضطلع به واشنطن سيتحدّد شكل النظام الإقليمي الجديد، فإمّا إيجاد صيغة للتعاون بين أطرافه بإمكانها تدوير الزوايا وأخذ المنطقة إلى هدوء نسبي، أو دفعها في حال الفشل نحو ضغوطات ونزاعات جديدة تنقل الإقليم إلى خطّ زلازل جديد.

مواضيع ذات صلة

بعد بيروت والشام… متى تتحرّر بغداد؟

لن تلتفت بغداد إلى غربها العربيّ بعد اليوم. هناك حيث حليفها بشار الأسد قد غادر غير مأسوف عليه إلى بلاد، كان ابنها، ابن فضلان قبل…

جهاد أزعور: الظّرف يصنع الرّئيس

ما لم تقع مفاجأة في ربع الساعة الأخير، سيكون لجلسة 9 كانون الثاني حصان واحد هو قائد الجيش جوزف عون: يُنتخب من الدورة الأولى أو…

السّعوديّة تسحب لبنان من مستنقع الشّرق إلى أوروبا الجديدة

كلّ الصالونات السياسية في لبنان تهمس بسؤال واحد: ماذا تريد المملكة؟ من هو الشخص الذي تُفضّله لرئاسة الجمهورية؟ ثمّ لرئاسة مجلس الوزراء؟ ولا أحد يملك…

مأساة شراء النفوذ من خارج الحدود

ما استثمرت دولة في نفوذٍ خارج حدودها إلّا ودفعت ثمناً أكبر بكثير ممّا كسبت!   الشواهد على هذه الحقيقة دامغة، ولا مجال للجدل فيها. فقد…