حروب الممرّات التّجاريّة: 6 خطوط… على تقاطع فلسطين (1/2)

مدة القراءة 9 د

حسابات الكبار في الإقليم وما يواكبها من تحضيرات لوجبات أميركية وصينية وروسية وهندية على نار هادئة، تدفع ثمنها دول المنطقة شاءت أم أبت. لا يمكن إغفال حقيقة أنّ ولادة الممرّ التجاري الهندي الذي ظهر إلى العلن لمواجهة الخطّ التجاري الصيني، والطموح الروسي لإنشاء خطّ أوراسيّ بديل يُجلس الهند وإيران وتركيا والجمهوريات التركية وأرمينيا حول طاولة واحدة، وتحريك خطّ الفاو العراقيّ كانت كلّها مشاريع لها تأثيرها المباشر على اشتعال أكثر من جبهة في المنطقة وإيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم.

بدأ اللاعبون الدوليون المؤثّرون في تشكيل أرقام التبادل التجاري ووسائل نقل الطاقة والأمن الغذائي في إطار التنافس والسيطرة، البحث في العقد الأخير عن طرق وممرّات تجارية بديلة واكبها الكثير من الاصطفافات في مواجهة الأطراف الأخرى.

عاديّ جدّاً أن تلعب الممرّات المائية والبرّية دوراً مهمّاً في حركة التجارة العالمية وتمنح الأطراف المؤثّرة فرص التفوّق والسيطرة. ومن الطبيعي أن يفتح رقم 25 تريليون دولار من الصادرات التجارية في العالم شهيّة الكثيرين، خصوصاً من يمتلك منهم الطاقات والقدرات ورأس المال الذي يسهّل له الجلوس إلى طاولة تقاسم هذه الكعكة، التي يكبر حجمها يوماً بعد يوم وتزيد قيمتها وأهمّيتها انطلاقاً من المتغيّرات ولعبة التوازنات المتحرّكة في العلاقات بين الدول.

الممرّات التجارية سلاح ذو حدّين، أحدهما إيجابي فعّال يقرّب بين الدول والمصالح ويحوّلها إلى تكتّلات اقتصادية بنّاءة، وسلبي معرقل يباعد بين الأطراف

لكن في قناعة الكثير من اللاعبين المؤثّرين في تحديد خطط ومشاريع الربط التجاري الإقليمي أنّ اشتعال أكثر من جبهة في الأعوام الأخيرة لا يمكن فصله عن تحريك أحجار أكثر من مشروع تجاري عالميّ عابر للحدود.

من ورّط نتنياهو وإسرائيل؟

الممرّات التجارية سلاح ذو حدّين، أحدهما إيجابي فعّال يقرّب بين الدول والمصالح ويحوّلها إلى تكتّلات اقتصادية بنّاءة، وسلبي معرقل يباعد بين الأطراف التي تتعارض حساباتها وتتباعد كما هو المشهد الحالي في الإقليم اليوم.

لماذا تغامر إسرائيل بتعريض ما سعت إليه طوال عشرات السنين من تطبيعٍ لعلاقاتها مع العديد من دول المنطقة وكان من المفترض أن يساهم الخطّ التجاري الهندي بإيصالها إليه، إثر إعلانها شنّ عدوان واسع على قطاع غزة أعادها إلى خطّ البداية في حلمها الإقليمي؟ أم هناك من ورّط نتنياهو وحكومته في هذا الفخّ في مطلع تشرين الأول المنصرم لقطع الطريق على فرص الحراك الأميركي الأوروبي للتقريب بين إسرائيل وبعض الدول التي لوّحت باحتمال قبول التفاوض مع تل أبيب؟

من الصعب تطبيق معادلة “رابح – رابح” بين الدول الكبرى التي تبحث عن فرص حماية حصّتها ونفوذها بسبب تضارب المواقف والسياسات

قد تكون الإجابة عند أحد كبار المسؤولين الأوروبيين، مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزب بوريل، الذي عبّر عن انزعاجه من تراجع النفوذ الفرنسي الإيطالي في ليبيا لمصلحة التمدّد التركي الروسي. حسابات أوروبا في شرق المتوسّط والشرق الأوسط والقارّة السمراء لناحية التمدّد والهيمنة ستؤجّل لربيع آخر كما يبدو، بعد اشتعال جبهات القتال في المنطقة ومراجعة العديد من العواصم لمواقفها وسياساتها هناك. الصراع القائم على الكعكة التجارية هو بين أميركا وروسيا والصين، ومن يدفع الثمن كالعادة هو الشرق الأوسط.

لذلك من الصعب تطبيق معادلة “رابح – رابح” بين الدول الكبرى التي تبحث عن فرص حماية حصّتها ونفوذها بسبب تضارب المواقف والسياسات. فخياراتها شبه محدودة: إمّا المزيد من التوتّر والتصعيد، أو الذهاب نحو طاولة الواقعية والبراغماتية، التي هي فرصتها الوحيدة لتجاوز الكثير من أسباب التباعد والفصل بين الملفّات والقضايا الخلافية والتقريب بين المصالح.

6 خطوط / ممرّات صراع في المنطقة

بين مؤشّرات التصعيد والتوتّر التجاري العالمي اليوم، نستعرض الآتي :

  • خلافات تقاسم النفوذ والتحاصص حول الممرّ التجاري الصيني “الحزام والطريق”، وطموح بكين الاستراتيجي الكبير لضمّ حوالي 70 دولة بشكل مباشر إلى مشروعها بهدف تقريب المسافات والفرص وخطط الاستثمار المشترك.
  • طرحت الإدارة الأميركية مشروعها البديل عبر الخطّ الهندي الذي رحّبت به العديد من الدول ووقّعت بالأحرف الأولى على دعمه خلال قمّة الدول العشرين الأخيرة في نيودلهي.
  • ثمّ ظهور خطّ بديل ثالث يتمدّد بشكل عمودي هذه المرّة ويقرّب الشمال والجنوب وتشرف عليه أميركا أيضاً وتلعب جمهوريات آسيا الوسطى دوراً محورياً في نشاطاته.

المفتاح الذي تبحث عنه موسكو هو بيد تركيا بحكم جلوسها فوق تقاطع الجغرافيا التي تتحدّث عنها موسكو وبسبب علاقاتها الاستراتيجية مع باكو

بذلك تحاول واشنطن تحريك أكثر من مشروع وخطّة تجارية عالمية لتضييق الخناق على التفاهمات التجارية الروسية الصينية الإيرانية. وذلك عبر إعطاء تركيا ما تريده في الخطوط المائية والبرّية المرتبطة بشرق المتوسط والبحر الأسود ووصولاً إلى البحر الأحمر الذي تحرّكت أنقرة باتجاهه عبر اتفاقيات تجارية مع العديد من دول آسيا وإفريقيا هناك.

  • ومشروع الشراكة العراقية التركية الإماراتية القطرية في خطّ التنمية العراقي والعروض الرباعية المتبادلة للمساهمة في وضع بنية هذا المشروع الذي يقلق إيران وإسرائيل قبل غيرهما.
  • هذا إلى جانب الخطّ الحديدي الذي يجمع بين جورجيا وأذربيجان وتركيا، والعرض التركي المواكب الذي يقلق الكثيرين عند انطلاقه لأنّه سيجمع أذربيجان وأرمينيا وتركيا حول ممرّ لاشين وزنغزور في جنوب القوقاز.
  • نصل إلى مشروع روسيا الجديد باتجاه تفعيل ما سمّي خطّ الشمال – الجنوب التجاري، الذي تريده موسكو في مواجهة الخطّ الهندي الذي تدعمه واشنطن. هدف روسيا هنا هو مناورة بيع غازها إلى أذربيجان على أن تبيع الأخيرة غازها لأوروبا، وذلك بالتنسيق مع إيران وأذربيجان وبإقناع الهند أنّ حصّتها محفوظة.

لكنّ المفتاح الذي تبحث عنه موسكو هو بيد تركيا بحكم جلوسها فوق تقاطع الجغرافيا التي تتحدّث عنها موسكو وبسبب علاقاتها الاستراتيجية مع باكو العاصمة الأذربجيانية.

تريد واشنطن دفع الهند نحو مواجهة روسيا والصين، وتضييق حركة المناورات الإقليمية الإيرانية واسترداد ما فقدته من نفوذ في الشرق الأوسط

مشاريع أخرى “مُقلِقة”

إذاً هناك حقيقة لا يمكن إغفالها ولا تقلّ قيمة عمّا يدور من نقلات تجارية استراتيجية، وهي أنّ تحريك الأحجار الأمنيّة والعسكرية في الإقليم سببه أيضاً تفعيل دول المنطقة لجهودها باتّجاه بناء ممرّات تجارية إقليمية مستقلّة فيما بينها، مثل خطّ التنمية العراقي والخطوط التجارية بين دول آسيا الوسطى وخطّ سكك الحديد الثلاثي الذي يجمع تفليس وباكو وقارص التركية، إلى جانب ممرّ زنغزور – يالشين الذي يقرّب بين تركيا وأرمينيا وأذربيجان. وتُعتَبرُ كلّها مشاريع مقلقة، وهي مستهدفة اليوم بسبب تحرّكها نحو المزيد من الاستقلالية التجارية والسياسية.

تريد واشنطن دفع الهند نحو مواجهة روسيا والصين، وتضييق حركة المناورات الإقليمية الإيرانية واسترداد ما فقدته من نفوذ في الشرق الأوسط. فهل قرّرت لعب الورقة الإسرائيلية لتفجير الوضع وخلط الأوراق الإقليمية على هذا النحو؟

صحيح أنّ الأصابع الأميركية موجّهة نحو الصين وعرقلة تمدّدها الاستراتيجي باتّجاه مناطق النفوذ الغربي، وصحيح أنّ واشنطن قد تورّط الهند في مواجهات اقتصادية وربّما سياسية مع شريكيها الصيني والروسي. لكنّ هدف أميركا أيضاً هو عرقلة الحراك العربي التركي الإيراني السائر نحو المزيد من الاستقلالية الإقليمية. تل أبيب قد تكون مرّة أخرى “الفدائي” الأميركي الذي حرّكته إدارة بايدن لنسف كلّ هذا الحراك الإقليمي الحاصل اليوم.

ما زالت دائرة الشرق الأوسط في قلب كلّ الصراعات الإقليمية والعالمية. تتّسع هذه الدائرة وتضيق بحسب الحسابات والمصالح الاقتصادية والأمنيّة والحسابات السياسية

إسرائيل “فدائيّ” مشاريع أميركا

للتذكير فقط، فإنّ مشاريع وخطط ربط الطرق البرّية والبحرية بين الدول والقارّات تتدافع منذ قرون. الإمبراطوريات والدول القويّة هي التي كانت وما تزال ترسم معالم هذه الطرق بحسب مصالحها وعلاقاتها وتحالفاتها.

الاستنتاج الأوّلي يقول إنّ واشنطن فشلت في إقناع الكثير من الدول والعواصم بخططها ومشاريعها الإقليمية بأبعادها السياسي والاقتصادي والأمنيّ. ولذلك قرّرت تحريك الورقة الإسرائيلية في محاولة لنسف الكثير من التفاهمات وتغيير المعادلات والتوازنات التي ستكون على حسابها، باعتبار أنّ لعب الورقة الإسرائيلية فرصة لا يمكن أن تعوّض.

ما زالت دائرة الشرق الأوسط في قلب كلّ الصراعات الإقليمية والعالمية. تتّسع هذه الدائرة وتضيق بحسب الحسابات والمصالح الاقتصادية والأمنيّة والحسابات السياسية. خسرت أوروبا نفوذها الاستراتيجي بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة الثنائي الأميركي والروسي. اليوم دخل على الخطّ اللاعبون الصيني والهندي والإقليمي المؤثّرون في المنطقة. والصراع هو على الممرّات والمضائق والبوّابات والطرق التجارية التي تربط البحار والقارّات بالدرجة الأساسية. لذلك الاحتمال الأكبر أن يكون قرار واشنطن وضع طنجرة الضغط الإسرائيلي على نار السخّان الأميركي، وهو ما سيقلق أكثر من لاعب في المنطقة بعد الآن، ويدفعه للبحث عن فرص ووسائل الردّ ورفع مستوى التعاون.

إقرأ أيضاً: حصّة طهران “محفوظة” في المطبخ التّركيّ العراقيّ!

هذه التحوّلات ستدفع العديد من الدول الإقليمية لمراجعة سياساتها وخططها وربّما تحالفاتها وشكل علاقاتها مع الصين وروسيا. وقد تدفع الهند أيضاً لإعادة تقويم السياسات التي تجرّها إليها واشنطن.

تدفع المنطقة مرّة أخرى ثمن الاحتراب الدولي – الإقليمي الذي أفسد الكثير من المشاريع والخطط التجارية الاستراتيجية التي كانت ستسهّل لها تجاوز أكثر من أزمة سياسية وأمنية واقتصادية وإنمائية. والإقليم غير مهيّأ بعد للتنازلات والتفاهمات والمقايضات.

في الحلقة الثانية غداً:

 حروب الممرّات التجارية: تركيا تؤسّس جيشها البحريّ (2/2)

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…