جورج قرم: المفكّر الذي عادى الحريرية طويلاً

مدة القراءة 6 د

بينما تتهدّد إسرائيل لبنان، ويخشى الجميع في الشرق الأوسط من انفجار كبير لا يبقي ولا يذر، يغادرنا الأكاديمي والمفكّر والمثقّف الكبير والاقتصادي والسياسيّ جورج قرم، عن 84 عاماً قضاها وهو يبحث في أزمات هذا المشرق الكبير، محاولاً تفسيرها وتعليلها للخروج منها… هنا محاولة لبورتريه في رثاء الراحل.

رحيل جورج قرم ليس من قبيل الصدفة. فهو يشير وسط الخطر الكبير والوجودي المحدق بنا إلى خطر آخر أشدّ هولاً وتهديداً وجوديّاً، هو رحيل القامات الفكرية والثقافية عن دنيانا: قامةً إثر قامة، وجبلاً بعد جبل.

المشرق العربي عموماً، ولبنان على وجه الخصوص، هما في جوهرهما اجتماع تلك القامات، وتعدّد وتنوّع مساهماتها التي وحدها تصنع أوطاناً وتبني وتطوّر حضارةً، وترسّخ معاني وقيماً لا شرق ولا لبنان من دونها.

بينما تتهدّد إسرائيل لبنان، ويخشى الجميع في الشرق الأوسط من انفجار كبير لا يبقي ولا يذر، يغادرنا الأكاديمي والمفكّر والمثقّف الكبير والاقتصادي والسياسيّ جورج قرم

المفارقة الثانية، في رحيله هذا، هي أنّه يرحل ونحن قاب قوسين أو أدنى من “انفجار المشرق العربي”. وهو عنوان كتاب له صدر جزؤه الأوّل خلال الثمانينيات بالفرنسية، وجزؤه الثاني خلال التسعينيات.

أيضاً يغادرنا جورج قرم في هذه الأيام، وقد شهدنا جميعاً الانهيار الاقتصادي الكبير الذي أصاب لبنان، والذي لطالما حذّر منه قرم، ونبّه إليه، وسعى إلى تفاديه وزيراً للمالية بين عامَي 1998 و2000.

هو من طينة العروبيّين الكبار، الذين لم ينساقوا خلف الأنظمة الديكتاتورية وأجهزتها القاتلة، بل غنّوا العروبة وغرّدوا بها في فضاء أكثر رحابةً وعلمانيةً وحرّيةً وتعدّداً وتنوّعاً، ومن طينة المسيحيين الكبار أيضاً الذين لم يتقوقعوا ويسجنوا أنفسهم ومجتمعاتهم في سجون ضيّقة.

رحيل جورج قرم ليس من قبيل الصدفة. فهو يشير وسط الخطر الكبير والوجودي المحدق بنا إلى خطر آخر أشدّ هولاً وتهديداً وجوديّاً

ابن “النظام الأمني اللبناني السوري”

في وداع جورج قرم، يتذكّر كثيرون كيف أنّه ظلّ قريباً من “السلطة” في بلادنا. فكان الرجل الذي واجه طويلاً سياسات الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وكان ثابتاً في الاعتراض المبدئي. وكوفىء بوزارة المالية في الحكومة التي شكّلها إميل لحّود لإقصاء الحريري وضرب سياساته ومحاولة إخراجه من الحياة السياسية. حكومة 1998 – 2000 التي عاد بعدها الحريري الأب فائزاً بالانتخابات وبزعامة نيابية وبيروتية لم تتوافر لغيره قبل اتفاق الطائف ولا بعده.

كان الرجل من رعيل المسيحيين الذين انحازوا إلى عروبة جمال عبد الناصر، بسبب ولادته في الاسكندرية، التي شبّ بعدها في مصر حتّى صار عمره 17 عاماً. ثم تحوّل إلى أحد المنظّرين ضدّ “الحريرية السياسية”، التي يحمّلها مسؤولية “ثلاثين عاماً أوصلتنا إلى هنا”. من دون أن يتضمّن “نصّه” أيّ نقد للنظام الأمني، أو لسطوة السلاح على الحياة السياسية في لبنان.

يغادرنا جورج قرم في هذه الأيام، وقد شهدنا جميعاً الانهيار الاقتصادي الكبير الذي أصاب لبنان، والذي لطالما حذّر منه قرم

شبه سيرة

وُلد جورج قرم في القاهرة عام 1940. هو من عائلة أرستقراطية معروفة. جدّه داوود قرم هو رائد فنّ الرسم في لبنان. والده جورج داوود قرم كان رسَّاماً أيضاً، وعازفاً ماهراً على البيانو. وهو من مؤسِّسي المتحف الوطني، والكونسرفاتوار اللبناني. والدته ماري بخيت تنتمي إلى أسرة ذات أصل لبناني سوري استقرّت في مصر. أمّا عمّه شارل قرم فهو صاحب “المجلّة الفينيقية” وديوان “الجبل الملهِم”. كان يحلم بأن يكرّس حياته للموسيقى، لكنّ معارضة والده حالت دون ذلك وجعلته يعزف على أوتار الهويّات والأفكار والاقتصاد.

أتمّ دراسته الثانوية في القاهرة، التي انتقل منها إلى جامعة باريس، حيث تخرَّج في فرع الاقتصاد في معهد العلوم السياسية، متخصّصاً في “المالية العامة والقطاع العام” عام 1961. حصل على إجازة في الاقتصاد السياسي عام 1961، وفي القانون المدني والتجاري عام 1962، ثمّ على دبلوم الدراسات العليا في القانون الدستوري عام 1966. ثمّ نال شهادة دكتوراه دولة في القانون الدستوري بتفوُّق، مع تهنئة اللجنة الفاحصة والتوصية بنشر الأطروحة عام 1969، وموضوعها “تعدُّد الأديان وأنظمة الحُكم”.

وُلد جورج قرم في القاهرة عام 1940. هو من عائلة أرستقراطية معروفة. جدّه داوود قرم هو رائد فنّ الرسم في لبنان

بعد تخرّجه عمل أستاذاً محاضراً في أكثر من جامعة:

– الجامعة اليسوعية في بيروت من 1973 إلى 1982، حيث درَّس القانون الدستوري، والفكر السياسي العربي المعاصر، والظاهرة القومية في العالم الثالث.

– الجامعة اللبنانية في بيروت من 1977 إلى 1985، وكان مشرفاً على دبلوم الدراسات العليا في سوسيولوجيا التنمية.

– الجامعة الأميركية في بيروت من 1981 إلى 1982، ودرَّس فيها التاريخ الاقتصادي، والأسواق المالية.

كما حاضر في عدد من الجامعات والمعاهد الأوروبية والأميركية والعربية عن الشرق الأوسط والعالم العربي، وشارك في ندَوات فكرية وأكاديمية.

عيّن وزيراً في لبنان في حكومة الرئيس سليم الحص من عام 1998 حتى عام 2000، وحاول كثيراً إصلاح الاقتصاد اللبناني … ولكن.

بعد تركه الوِزارة عاد إلى التدريس، ميدانه وديدنه.

أمّا مؤلّفاته فأكثر من أن تُعدّ وتُحصى، وأبرزها: “السياسة الاقتصادية والتصميم في لبنان” (باللغة الفرنسية/ 1965)، “تعدُّد الأديان وأنظمة الحكم” (دار النهار/ 1977)، “الاقتصاد العربي أمام التحدّي” (دار الطليعة/ 1977)، “التبعية الاقتصادية، مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظور التاريخي” (دار الطليعة/ 1980)، “التنمية المفقودة، دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية” (دار الطليعة/ 1981)، “أوروبا والمشرق العربي، من البلقنة إلى اللبننة: تاريخ حداثة غير منجزة” (دار الطليعة/ 1990)، “التحوُّل” (رواية عن الحرب اللبنانية باللغة الفرنسية، باريس 1992)، “النزاعات والهُوِيَّات في الشرق الأوسط، 1919-1991″، “مدخل إلى لبنان واللبنانيين، يليه اقتراحات في الإصلاح” (دار الجديد/ 1996)… وغيرها الكثير من الكتب والدراسات والمحاضرات والمقالات.

عيّن وزيراً في لبنان في حكومة الرئيس سليم الحص من عام 1998 حتى عام 2000، وحاول كثيراً إصلاح الاقتصاد اللبناني

آخر النّهضويّين؟

أمضى قرم حياته وهو يبحث في مشكلات العالم العربي، متقصّياً جذورها وباحثاً عن حلول لها. كان هاجسه وشغله الشاغل منذ تخرّجه من الجامعة مسألتَي التنمية والتحديث. لم يترك باباً للعلم إلّا طرقه، ولم يترك مسألةً إلا وكتب فيها، وهو في هذا مفكّر موسوعي طليعيّ لا يختلف اثنان عليه.

إلى ذلك هو واحد من المسيحيين النهضويين في بلادنا، وربّما يكون آخرهم، فهو من طينة النهضويين الأوائل الذين شُغلوا بالقضايا العربية، وكان هاجسهم مواكبة العصر والتقدّم والتطوّر والحفاظ على فسيفساء هذا الشرق.

إقرأ أيضاً: 2006 – 2023: كلّ طرق الحرب تؤدّي إلى 1701

يغادرنا جورج قرم، ربّما ونحن على وشك مغادرة هذا الشرق، أفراداً وجماعات، بحثاً عن آفاق سبر أغوارها الراحل وأنداده، وقد استحالت البلاد التي أنتجتهم وأنتجتنا فقراً يرتع فيه الوحوش وذوو الأنياب والمخالب.

 

لمتابعة الماتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…